بقلم: الأسير ثامر سباعنة
إن ثقافة التعمير لا تحتاج لبيئة معينة أو ظروف محددة ، هي تحتاج فقط لمن يحملون هذه الثقافة ولمن يملكون إرادة التعمير، فها هي ثلة من الأسرى الذين لا يملكون إلا إرادتهم وعزيمتهم، ها هم يضربون أروع الأمثلة على ثقافة التعمير وصورة التكافل والعطاء والأخوّة.
جاء قرار إدراة سجن "مجدو" بأن هناك 47 أسيراً من قسم 5 سيتم نقلهم إلى سجن "جلبوع" ، وسيعودون إلى "مجدو" بعد أسبوعين، كان هذا النقل خليطاً بين عقوبة لهؤلاء الأسرى وبين إجراء صيانة للقسم، أعد هؤلاء الأسرى أنفسهم وأعدوا عدتهم وجهزوا حقائبهم، وحملوا معهم أدوات الطبخ والمواد الغذائية الكافية لهم حسب عددهم وحسب مدة بقائهم هناك .
تحركت "البوسطة" (عربة نقل الأسرى) متجهة نحو سهل بيسان المشتاق لهذه الثلة التي غابت عنه رغماً عنها، وصلنا إلى سجن جلبوع، تعانقت الأجساد مع نسيم بيسان وسرت قشعريرة في النفوس، فمنا من كانت هذه أول مرة يصل فيها إلى هذه البقعة من الأرض، طبيعة جميلة رائعة شوّه جمالها هذا البناء الموحش.
دخلنا إلى القسم المخصص لنا وهو قسم يحمل رقم 1، القسم مهجور منذ فترة طويلة، لذلك فهو في حالة يرثى لها، وبعد أقل من ساعة دخل علينا 50 أسيراً جديداً قادمين من سجن "عوفر" معظمهم صغار السن لا يحملون معهم سوى ملابسهم الخاصة، لا أغطية، لا طعام، ولا أدوات طبخ!
قال الله تعالى في سورة هود: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.."، لذلك فالإعمار ثقافة يتحلى بها أبناء الإسلام، فبدأ الإعمار والإصلاح، لم يكن الإعمار مجرد إعمارٍ ماديٍّ للقسم من إصلاح للغرف وتنظيف للساحات والمرافق فقط، إنما كان إعمارًا للنفوس والأرواح أيضاً، فقد تجلّت صورة التكافل والتضامن واستنهاض القوى، لقد عكسوا صورة حية عن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، فقد سارع أسرى "مجدو" لجمع كل ما معهم من أطعمة وأدوات طبخ وملابس قسّموها على الموجودين؛ بحيث ينتفع بها ومنها الجميع، فكانوا كالأشعريّين الذين قال فيهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " إن الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم.." ، ومعنى "أرملوا" أي فرغ طعامهم وانتهى.
اجتمع الأسرى وتحررت الأنفس من الأنانية وتطَلَّع الجميع إلى العطاء لا الأخذ، إلى التضحية لا الغنيمة، "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.." ، لقد عمروا النفوس كما عمروا البناء، تشاركوا بكل ما ملكوا، لم يقبلوا أن يبات أحدهم شبعان وبجانبه أخ أسير جائع؛ عملاً بوصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : "ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره جائع..".
مضى أسبوعان من الإعمار، فهذه الثلة تدرك أن الإسلام يهتم بإعمار الدنيا كما اهتم بإعمار الآخرة، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، وجاء موعد الرحيل و العودة إلى سجن "مجدو" ولم تنتهِ إرادة التعمير، سارعت هذه الثلة الرائعة لتنظيف القسم وترتيبه قبل الرحيل عنه عاكسين بسلوكهم الصورة الحسنة السليمة لثقافتنا وحضارتنا، وهم يدركون أن الإعمار هو رسالة نكتبها بعملنا وأخلاقنا وتصرفاتنا على أرض الواقع، وهذا القسم من سجن "جلبوع" وإن انتهت فترة وجودنا فيه قد يكون سكناً للآخرين بعدنا لعلهم إخوة في الدين والوطن، أو حتى إخوة في الإنسانية.
وأختم مقالي بأبيات من الشعر نظمها الأسير أسامة حلاوة، يتحدث فيها ويصف حال تلك الثلة التي انتهجت ثقافة الإعمار فجاءت هذه الكلمات:
النجم بدا حيث هلّ هلّ من السما فالنور بان على الثرى مجدا
هي إخوتي قرباتُ يلمع نجمُها جلبوع يشهد كيف تعلو في السما
كتبت هذه السطور بقلم الأسير ثامر سباعنة
اثناء إعتقاله في #سجن_ جلبوع