بقلم : سامر خويرة
“غرف العار” … مصائد للمقاومين
رغم أنّ العصافير طيور جميلة، تمنح زقزقاتها الصّباحيّة من يسمعها نشاطا وتفاؤلا كبيرين، فإنّ للكلمة معنى مختلفا تماما في قاموس الحركة الأسيرة الفلسطينيّة.
فالعصافير.. مصطلح أطلقه المعتقلون الفلسطينيّون على العملاء في سجون الاحتلال. ويرجع سبب التّسمية إلى طريقة تسليم هؤلاء العملاء أنفسهم لإدارة السّجون؛ إذ أنّهم ينتظرون قدوم إدارة السّجن من أجل العدد، أو تفتيش المعتقلين، فيستغلّون الموقف ويهربون نحوها، وهي تشبه فرار الطّائر من عشّه. ويقال عندما يسلّم شخص نفسه لإدارة المعتقل فلان طيّر، أو عصفر.
ومع الوقت، جنّدت المخابرات الصّهيونيّة العصافير ووظّفتهم في سبيل انتزاع الاعترافات من المعتقلين، خاصّة أولئك الذين يثبتون جدارتهم في أقبية التّحقيق، فيوهمونهم أنّهم انتقلوا إلى السّجن وسط الأسرى، ولكنّهم في الحقيقة يعيشون مع مجموعة من المدرّبين جيّدا على أداء الأدوار.. وعندما يشعر الأسير بالرّاحة معهم، يستجيب تدريجيا لاستفساراتهم، ويبدأ البوح بقصصه، ليكتشف متأخّرا أنّه اعترف دون تعذيب أو ضغوطات ومن تلقاء نفسه بما عجز كبار المحقّقين على انتزاعه منه بالقوّة.
وتعدّ مصائد العملاء أو ما تعرف بـ”غرف العصافير”، من أهمّ الرّكائز التي تعتمد عليها المخابرات في انتزاع الاعترافات من المعتقلين؛ لما أثبتته من نجاعة في الماضي والحاضر، وهذا الأسلوب من الأساليب الأكثر اتّباعا في الوقت الحاضر، وتعوّل عليه المخابرات الصّهيونيّة كثيرا في إثبات التّهم، وهو أسلوب خبيث، يعتمد على التّعاون الذي يتمّ بين شرذمة من العملاء التي باعت وطنّيتها ومعها شرفها للاحتلال، ولم يبق فيها حياء أو ذرّة من خلق أو دين.
ويرجع اعتماد هذا الأسلوب إلى منتصف السّبعينات، حيث كان الارتباط شيئا نادرا. وقد استطاعت المخابرات الصّهيونيّة إسقاط العديد من الشّباب، فكثير من المتساقطين كانوا يخشون اكتشاف أمرهم عند المساجين في الأقسام، فيطلبون العمل بمعزل عنهم؛ خوفا من التّحقيق معهم وقتلهم، ومن هنا بدأت فكرة “غرف العار” التي تجمع عدّة عملاء ممّن ارتبطوا آنذاك، وسلّموا أنفسهم لإدارة سجون الاحتلال ومخابراته.
قصص مؤلمة
ويعدّ “العصافير” أخطر أنواع عملاء الاحتلال الصّهيونيّ داخل المعتقلات والسّجون. وحسب الدّراسات، فإنّ 90% من اعترافات المعتقلين يتمّ انتزاعها عن طريقهم.
وخلال انتفاصة القدس الأخيرة، فعّل الصّهاينة هذا الأسلوب، خاصّة مع الأسرى الصّغار، الذين اعتقلوا خلال محاولاتهم تنفيذ عمليّات طعن، أو رشق بالحجارة، نظرا لجهلهم به، وبالفعل، فقد وقع عدد كبير منهم في شراكه، ولاحقا صدرت بحقّهم أحكام بالسّجن لسنوات.
يروي الأسير المحرّر أمجد غالية تجربته فيقول “أمضيت بالسّجن 8 أعوام، على تهمة لا تستحقّ أشهرا.. فأنا فعليّا كنت ضمن مجموعة من الشّباب نرشق الحجارة ضد جيش الاحتلال، وعندما اعتقلت نقلوني مباشرة للسّجن، واستقبلني الأسرى أحسن استقبال، ووفّروا كلّ مستلزماتي.. وبدأ بعضهم في جلسة عامّة يتفاخر بما فعل، فمنهم من أطلق النّار على مواقع للاحتلال، وآخر اشترك بمجموعة عسكريّة وهكذا.. فشعرت بنفسي صغيرا أمامهم، فرحت بتأليف قصّة من مخيّلتي.. ولا أدري أنّني كنت أمام عملاء يسجّلون كلّ حرف”.
أمّا محمّد حازم، فقد اعتقد أنّه عندما أقرّ بالاشتراك بإحراق حافلة صهيونيّة في القدس المحتلّة بأنه اعترف “ّلمناضلين”، لكنّه اكتشف لاحقا أنّهم كانوا “عصافير”.
يقول حازم (25 عاما): “كان عمري 18 عاما واعتقلت بتهمة إحراق الحافلة، وخضعت للتّحقيق لدى المخابرات لكنّني لم أعترف بشيء.. وبعد ثلاثة أيّام تمّ نقلي إلى غرفة فيها معتقلون منهم من أطلق لحيته ومنهم من يؤدّي الصّلاة في مواعيدها”.
وتابع “جلسوا معي على أساس أنّهم ممثّلين عن الفصائل. هناك من يقول إنّه من فتح، وآخرون يقولون إنّهم ينتمون إلى حماس، وعرّف أحدهم عن نفسه بأنّه مسؤول في القيادة العليا ويريد منّي تقريرا عمّا فعلته لينقله إلى القيادة إلى الخارج كي يتمّ أخذ الحيطة والحذر”.
وأضاف “وضعوني في حالة نفسيّة صعبة، وكأنّ مصير فلسطين يقف على كلمتي، فشرحت لهم ماذا فعلت وبالتّنسيق مع من في الخارج… حينها شعرت بثقل الأمانة التي أزيحت عن صدري، لكن ما جرى كان صادما لي، فقد عدت للتّحقيق وروى لي المحقّق حرفيّا ما قلته، فأدركت ماذا حلّ بي”.
كيف يعمل “العصافير”؟
ومن الرّوايات التي جمعناها، تتبيّن لنا طرق عمل هذه الشّريحة من البشر..
إنّ انتزاع الاعترافات بالخداع عن طريق غرف العملاء، جزء من تعذيب المعتقلّ نفسيّا وتدميره معنويّا ووطنيّا، وهو عمل غير مشروع وغير قانونيّ، ولا تعتبر الاعترافات في غرف العملاء قانونّية ولا دلائل ثابتة تقدّم للمحكمة، ولكنّها تستغلّ لزيادة الضّغط على المعتقل، بعد أن يتمّ سحبه من غرف العملاء وإدخاله غرف التّحقيق ثانية.
“في كثير من الحالات أنكر الأسرى اعترافاتهم في غرف العملاء، وواجهوا المخابرات الصّهيونيّة بكلّ قوّة، ولم تؤخذ اعترافاتهم سندا قانونيّا ضدّهم، إلاّ أنّها كشفت أسماءً ومعلومات، كان من الصّعب أن تنالها المخابرات الإسرائيلية بسهولة، لولا استخدام غرف العملاء، وعدم وعي الأسير بأساليب المواجهة” هذا ما قاله أحد الأسرى المحررين من أقبية التحقيق الصّهيونيّة، بعد أن خاض تجربته في التحقيق التي استمرّت 180 يوما منها 26 يوما في غرف العملاء.
الشّكل الأول: بعد أن تمضي على المعتقل فترة من الوقت داخل غرف التّحقيق والمواجهة المباشرة، يتمّ إنزاله إلى الرّاحة، أو النوم داخل زنزانة، فيكون العميل موجوداً فيها، أو يأتي لاحقا، فيمثل دور الأسير مثل المعتقل الذي يخوض التحقيق، وتبدو عليه آثار التعب والإرهاق والسهر، ويبدأ بالحديث بأن له مدة كبيرة في التحقيق ولم يعترف على شيء، وأنه سوف يفرج عنه قريباً، وقد يكون غداً، وأنه مستعد للمساعدة، وفيما إذا أراد أن يحذر الأسير أفراد مجموعته، أو يعرض عليه جهاز “تلفون” كي يتحدث به مع أشخاص يخصّونه في الخارج، ويدعي أنه قد هرّبه”.
الشكل الثاني: العميل الذي يكون مع الأسير في الزنزانة ولا يتحدث بشيء، ودائما ما يكون نائما، حتى يضطر الأسير للحديث معه، وهو غير مبال، لإيهامه بأنه غير مهتمّ بكل ما يقول؛ ما يدفعه إلى الثقة به والاسترسال في الحديث معه، حول معلومات تطلبها المخابرات الصّهيونيّة.
الشكل الثالث: العميل الذي يحاول الحديث مع الأسير حول قضيته بكل الأساليب، محاولاً معرفة التفاصيل، وهو دور معروف. ولكن الخطير في الأمر، أنه بعد أن يجلس مع الأسير، ينتقل إلى زنزانة أخرى مع أحد أفراد قضيّته، ويقول له: إنّه كان مع الأسير ابن قضيّته في الزنزانة، وأنه اعترف بكل شيء، ويحدّثه ببعض العموميّات حول القضية، وهذا أخطر ما في الموضوع، حيث يوهمه بأنّ أبناء القضية قد اعترفوا بكل شيء، ولا داعي للصّمود.
الشكل الرابع: العميل “العصفور” الذي يمثل دور النّاصح الأمين، فيحذّر الأسير من العملاء وضرورة عدم التحدث عن قضيته، وأهمية ألا يكتب شيئاً عنها، ويشرح له بشكل مطول حول “العصافير”، وأنه الآن في المرحلة التي تسبق ذهابه إليه، وبعدها سوف يخرج إلى السجن الحقيقي، ويشرح له عن السجن الحقيقي، وأن به شاويشاً ومردواناً، ومسؤولاً للقسم، وموجهاً أمنياً أو ما شابه. وفي الحقيقة، فهو يشرح له عن مردوان “العصافير” الذي يتواجد به العملاء، وأن هذه المرحلة تهيئة له، للذهاب إلى العصافير. وهذا دور حقيقي يمثل خطورة كبيرة؛ حيث توجد عدة غرف ويكون بها عدد من المعتقلين قد يبلغ العشرات، يتم إبلاغ المعتقل (قيد التحقيق) أنه قد أنهاها وسينقل للأقسام التي تكون أقساماً “للعصافير”.
خداع مدروس
يقول أحد الأسرى الذين خاضوا التجربة: “قد يكون معظم الموجودين في هذا القسم، ملتحين، يقرأون القرآن بشكل جيد، ويمثلون دور العابدين، يصومون النهار ويقومون الليل، ويتسمّون بأسماء إسلامية لها تاريخ، مثل: أبو صهيب، وأبو حمزة ، أبو جهاد، وأبو نضال، وأبو فلان وما شابه، أو متصنعين الانتماء لفصيل المعتقل، ويتخذون أسماء لرفاق أو شهداء من جميع الفصائل، وحسب فصيل المعتقل، ويقوم أحدهم بتمثيل دور المسؤول الأعلى للتنظيم، وآخر دور الموجّه الأمني، وثالث مسؤول مؤتمر النقاش الديمقراطي…الخ،
ويطلب الموجّه الأمني من المعتقل الجديد أن يكتب تقريرا أمنيا حول ما جرى معه في التحقيق، وما قام به من نشاطات خارج المعتقل، حيث يكتبون له أسئلة تكون معظمها عن معلومات لم يعترف بها، وأسرار تنظيمية، وعن (كمية الخسارة داخل التحقيق)، أي كم أخذ المحققون منه معلومات، وما إذا كانت هناك أشياء أخرى لم يعترف بهاا.
الخطورة أنه إذا لم يتعاطَ المعتقل معهم، يهددونه، بمعاقبته بالمقاطعة وعدم الكلام معه مثلاً، وعزله عن باقي السجناء، وتهديده بالتحقيق معه لأنه عميل، حتى إعدامه، ويمارسون عليه دور الإرهاب والتهديد والوعيد، وأنه مدسوس عليهم، وهذا مجرد تهديد فحسب ولا ينفذون أي شيء من ذلك.
أحد الأسرى المحررين يقول: “يجدر بالأسير التنبه إلى ملاحظة مهمة، وهي أنه إذا اكتشف “العصافير”، فالأصل ألا يشعرهم بأنه عرفهم وكشفهم، بل عليه أن يوهمهم بأنه قد انخدع بهم، ويمكن أن يعطيهم معلومات مضلّلة، بحيث تصل -عن طريقهم- للمخابرات معلومات تخدمه وتبرئه، أما إذا شعروا بأنه قد اكتشفهم فسيقومون بعمل شرك آخر له”.
نصائح هامة
وحول أساليب مقاومة المعتقلين لأساليب التحقيق الصّهيونيّة وغرف “العصافير”، فيمكن اتباع الإرشادات التالية.
- يجب التركيز على عدم الاعتراف، حتى لو أوهموا المعتقل أن القضية مكشوفة، وأن أبناء القضية قد اعترفوا بكل شيء، ولا يغرنّه تحدثهم ببعض العموميات عمّا قام به ورفاقه.
- إن دور الصديق، والشرير، الذي يقوم به المحققون، يجسّد مسرحية مكمّلة لبعضها البعض، فكلهم يعمل من أجل هدف واحد، وهو سحب الاعتراف، وتحطيم المعتقل نفسيا ووطنيا.
- التأكد أن التحقيق، بأغلبه، يعتمد على العامل النفسي، أكثر من العامل الجسدي.
- على المعتقل أن يدرك أنّه خاضع للتحقيق في كل فترات الاعتقال، وأن كل الخطوات التي تتم معه ليست صدفة، وأن من يقابلهم في الزنازين، أو الغرف ليسوا صدفة، وأنهم في أوج التحقيق.
- إن التنظيم الحقيقي داخل السجن، لا يطلب من أحد أية معلومات لم يعترف بها عند المخابرات نهائيا، ولا تحت أي ظرف أو مسمى.
- إن عبارات الاتصال بالزملاء في الخارج، من أجل إصلاح الخلل، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتقليل الخسائر- كلها عبارات مخابراتية لا يستخدمها إلا العملاء من العصافير.
- يجب أن يعلم الأسير أن وقوعه في الأسر، قد أنهى كل أشكال العمل مع رفاقه في الخارج، وأنه يعيش واقعا جديدا، ومرحلة جديدة، تستلزم السرية التامة، وعدم محاولته الاتصال بالخارج تحت أي ظرف، خاصة أثناء فترة التحقيق.
- من اللافت للانتباه، أن بعض الأسرى الذين يملكون بعض المعلومات عن “العصافير” ينتبهون للشكل وليس للمبدأ، حيث يكونون حذرين إزاء شكل محدد من أشكال “العصافير”؛ فإذا تغيّر الشكل، وقعوا بسهولة فريسة لهم. وهنا لا بد من تعليم الأسير المبدأ وليس الشكل، وهو السرية التامة، وحجب المعلومات بشكل كامل، عن أي إنسان، تحت أي مسمى أو هيئة.
- عدم الانخداع بما قد تلجأ إليه المخابرات في التحقيق من أشكال وأساليب مختلفة، ومنها تخويف المعتقل بجهاز كشف الكذب.