بقلم : الدكتورة كفاح أبوهنّود
كنت أتحدّث معه مثل فيلسوف أو مثل سجين استقرّ في التّأمّل طويلا ..
قال لي .. وماذا يعني ذلك ؟ قلت له : السّجن يَحِيك لك الصّمت غرزة غرزة حتى تنغلق أزرارها عليك وتأخذك إلى أسرارها ..
ضحك عاليا وقال : هاقد عاد فيك الفيلسوف .. فما هي أسرارها ؟! .. قلت له : السّأم ! .. صمت صديقي مكرهاً فقد أخذ الحديث منحنى باردا ..
لم انتظره وأكملت .. السّأم يجعل منك إنسانا آخر .. في السّأم يصبح الجرح جرحان .. وتستسلم للطّعنات سريعا .. في السّأم تغادر كثيرا ولكن نحو الهزيمة ..
استشاط صاحبي غضبا وقال لي : كيف تأذن للسّجن أن يكتبك ؟ قلت له : أظنّك من هواة الجري .. ردّ مسرعا : نعم .. قلت له : الممرّات هنا كسلى ! ..
كنت ألكمه بشدّة بالكلمات حتى لا يتجرّأ على التّنظير وعمره في السّجن بضع ليالٍ ..
قلت له : المكان يا صديقي يبدو مثل لوحة صامتة في قاعة باردة وعليك أن تشعلها بأفكارك حتى لا تفقد ملامحك ..
المكان هنا مُعدّ كي تبلغ بك كل الجدران أرشيف الذّكريات .. وكلّما مرّت بك ساعة هنا انتبهت إلى أنّ الشّغف بدأ يذوي في خلاياك ..
كان صديقي يتمعّن في الكلمات .. وفي زفير فمي .. كأنّما يرى ظلال كلّ كلمة .. يراها معوجّة أو منحنية .. ويرى كمّيّة الموت فيها .. كان يحدّق في كلّ كلمة كأنّه يمحو بصمات السّجن عنها .. يحرّرها حتّى لا تبدو نظريّة أو واقعا وحقيقة .. أعجبني ذلك إذ كنت أحتاج نافذة إلى داخلي وكان هذا السّجين الجديد بؤرة الضّوء التي كشفتني ..
يقول أحدهم أنّ الحديث الكثير دليل على خوف طويل .. ربّما لأجل هذا لم أتوقّف عن الكلام طوال ليلة قدومه .. كأنّني أتحسّس كمّيّة الحزن في ذبذبات صوتي ! ..
قال لي صارخا .. أيّها الفيلسوف أما سمعت أنّه من يصادق الحزن يمشي في جنازة نفسه كلّ يوم ألف مرّة .. قلت له غاضبا .. هو من اقتحمني !
حين كانت تغزوني كل الاحتمالات عن زوجتي .. عن أطفالي .. عن أمّي .. وعن أشياء كثيرة أنت لا تفهمها الآن كنت أتساقط من الإنهاك .. أنت لم تجرّب ذلك ..
أنت لا تعرف أنّ بين الشّهوة والحزن مسافة انهيار ! .. أنت لا تعرف كيف يجعلك الشّوق إلى رائحة الطّابون رميما .. كيف تعزف الأعياد ارتجالا فيك ألحان العذاب ..كيف يتلهّف الحنين فيك إلى ضمّة لطفلتك قبل أن تكبر .. أنت لا تعرف نصف الحبّ .. أن تظلّ معلّقا بين مشاعر توهّجت وظلّت تلسعك وبين رغبتك في النّسيان ..
أنت لا تعرف ما معنى أن يكبر الزّيتون ظامئا إليك .. أن يجفّ نهر فتعود إليه وسادة باردة .. يا الله .. وسادة باردة وقد غادرته حكاية تضجّ بالحياة ..
تدري .. صدّقني لا يهم .. فقط أريد ضفّة هادئة لا أشتمّ فيها رائحة الفراق
كان صديقي يرتجف .. ربّما كانت كلماتي أشبه بالثّلج .. نزعت عنه معطفي ووضعته على كتفه وتركت شفتي تمطران عليه .. كنت مثل عاشق لا يتوقّف عن الهرولة ..
قلت له .. كان شهر أيلول دوما يرتدي غيمة خفيّة ويثير فيّ جنون الانتظار .. أمّا شهر ديسمبر فيجبرني على حنين الشّعر .. تزهر بتلات الورود في نيسان وأكتب للعصافير .. لكنّ الإهمال يفسد نكهة المواسم وتذبل معه الفصول .. تنهّدت وتحسّست وجهي خشية أن تفضحني دموعي
يا صديقي .. العمر الهارب منّي مثل ظلّ طويل خلفي .. وكلّما نبت البياض في رأسي تفقّدت قلبي .. لا أريد للتّجاعيد أن تسكن أيّامي القادمة .. عند هذه اللّحظة لا أدري لماذا كانت الأوراق في يدي باردة كأنّ الحياة تجمّدت في يدي.
تململ صديقي كمن يستيقظ فجأة من نوم عميق وقال لي : متى موعد الإفطار ؟.. قلت له : حسب مزاج السّادة .. أحيانا يقدّمون لنا صباحا فاسدا ومسمّما بالتّفتيش المفاجئ .. ينزعون من ممتلكاتنا أو سعادتنا رقعة ويرمّمون بها رداء بقائهم…
بعد أن أجبته سألت نفسي:هل كان يموج عقلي برائحة الحزن وفي الزّنزانة ملل يكفي لكلّ هذا الذي تفوّهت به؟
اقترب منّي وقال: قاوم المرارة ..
استسلمت وقلت له : كيف .. وحين نظرت إليه اكتشفت أمرا ..
قلت له: كنت أحتاج وجهك الغضّ في هذا الظّلام الثّائر .. كنت أحتاج يديك في هذا الفراغ الشّاغر!
حدجني بنظراته وقال: بعض الطّقوس الصّغيرة تصنع فرقا هائلا ..الدّروب السّهلة مملّة .. وكذلك الدّروب التي تحفظها الأقدام .. اِصنع تفاصيل جديدة كلّ يوم … إنّهم يبقون السّجين في مشاعر عدميّة .. وحين يأتي المساء تتنفّس بعض الذّكريات وحينها يكملون إحراقك ..
يُقال يا صديقي أنّنا حين نيأس من الواقع نتعاطى الخيال … فأعمٍل معول خيالك في هدم الجدران .. اِجعل منتهى أرقك أن تكون كلمة معرّبة .. أن تكون رواية .. أن تكون الرّوح الخشنة التي فتكت بهم .. اِجعل مساءك سخيّا بالرّحلة إلى عوالم على سطور الكتب .. قاوم بالبقاء ثريّا .. قاوم رائحة الزّنزانة بالحديث عن مشاريع يبلغ فيها صوتك الأفق .. إنّ الله يحبّ المؤمن القويّ .. هذا تاريخ عزلتك .. تاريخ غار حراء من عمرك .. تاريخ مرّ على يوسف وعجز السّجن أن يكون عليه شؤما ..
لن نندثر هنا .. سيكلّلك الضوء يوما ما .. فلا تخرج إليه نجمة آفلة قد استقرّت فيها عتمة السّجن!