أشبالنا الأسرىبالورقة والقلم

الفتى مراد .. بسكّينه الصغير ثَأر لأمًّة

بقلم : يحيى صالح

 

إنّه يوم الأحد، السّاعة تقترب من الثّامنة مساءً، بتوقيت مدينة خليل الرّحمن، بدأ السّكون في الجبال الجنوبيّة للمدينة، وتحديدا المحاذية ليطّا.

المواطنون يلملمون بقايا أشياءهم المبعثرة، بعضهم عائد من العمل، والآخر يتهيّأ للذّهاب في صباح اليوم التالي، والمكان يميل إلى الهدوء، فالمارّة خفّت أقدامهم، والسّيّارات هجعت منهكة من زحمة النّهار، والنّاس كما الشّمس أفلوا، والكلّ يغادر المكان، وحده مراد ، يرقب من بعيد الهدف.

كانت تلك الفترة، تعجّ بأعمال المقاومة الفلسطينيّة، خصوصا في خضمّ انتفاضة القدس، وعشرات العمليّات التي وقعت وأوقعت الجرحى والقتلى في صفوف الجنود والمستوطنين الصّهاينة.

وبوقت قصير كان ويكون، صور تبثّ عبر الفضائيّات لجنود الاحتلال يقومون بإذلال الفتيات الفلسطينيّات على الحواجز، وإجبارهنّ على خلع ملابسهنّ وحجابهنّ، في عنجهيّة واضحة لقوّات الاحتلال ضدّ الشّعب الفلسطيني.

مراد بدر دعيس، من مدينة يطّا جنوب الخليل، يبلغ من العمر 15 سنة، أقدم على تنفيذ عمليّة بطوليّة ثأرا لأخوات المرجلة، فقتل المستوطنة “دفناه مئير” في قلب مغتصبة عتنئيل جنوب غرب يطّا بالخليل.

كيلو ونصف تقريبا من المسافة، قطعها مراد مشيا على الأقدام في مساء يوم الأحد، من منزله إلى الطّريق المختصر لحدود مغتصبة عتنئيل، واقتحم جدارها بكلّ خفّة، وكان يحمل بحوزته سكّينا، قد استمرّ في شحذه أيّاما، ليصيب الهدف في مقتل.

صفر هي المسافة بين الحياة والموت لمراد، ولكنّه غرس سكّينه عشرات المرّات في صدر المغتصبة دون أن يعلم عنه أحد، وانسلّ آفلاً إلى منزله الآمن في بلدة بيت عمرة بيطّا جنوب الخليل.

أمّ مراد، وهي تروي قصّة البطولة لابنها، الذي أثبت للعالم أجمع، بأنّ النّصر حليف المتّقين، ليس بالعدد والكثرة، وما زالت والدته تقلّب في صفحات الذّكريات، حيث تقول، الخبر العاجل، قرأناه عبر شاشة الأقصى، ومراد يشاهد معنى وكأنّ الأمر لا يعنيه، ولا شكوك تطارد مراد، بيد أنّه هلّل وكبّر وقال، الحمد لله بأنّ هناك من ينتصر لبناتنا وأخواتنا.

لم يتجاوز عقرب الدّقائق خطوتين أو أكثر، حتّى امتلأت البلدة بعشرات الجنود والآليّات العسكريّة، وإغلاق كبير للمنطقة، وعمليّة بحث عن المنفذ، ولسان الحال يقول: أمنك وحفظك لجندك يارب.

أيّام ثلاثة استمرّ الحال على إغلاق المنطقة، وتفتيش كلّ المنازل، وما من شيء يذكر على حالة ردّ الفعل للفتى البطل مراد، غير أنّ لسانه يلهج بالدّعاء، اِحمه يارب ولا تجعلهم يقتربون منه، والعائلة تردّد دون علمهم بأنّ البطل يحدّثهم وينظرون إليه.

وفي اللّيلة الظّلماء، كما أسمتها أمّ مراد، حيث عشرات الجنود يقتحمون منزلهم، وبأصوات عالية، مراد يا قاتل، أين أنت؟ لا تقم بأيّ حركة وإلاّ سيكون مصيرك الموت.

تنهّدت بأنفاس كتمتها لبعض الوقت، وقالت: تلك اللّحظة، حين صوّب جندي بندقيّته إلى رأس مراد وقال له، مصيرك الموت، لن تمرّ فعلتك دون عقاب، تلك الدّقيقة تمرّ كأنّها نفس يتعثّر في صدر أحد يحتضر، لم أكن قبل هذه الدّقائق أُدركُ حقيقة أنّ الحياة عبارة عن مفاجآت !

الصّمتُ مُطبِق في تلك اللّحظات، والسّكون عمَّ وطمّ، كانت حركة الحياة قد توقّفت إلاّ مجرى الدّم في العروق وصوت القلب النّابض وخزّان الأعصاب الذي أوشك أن ينفجر، مراد .. أقول في نفسي، أنت من فعلها .. يا لك من بطل!

في تلك اللّحظات أخرج الجنود “مراد” مكّبلا وسط شتائم إلى باب المنزل، وهم يقولون له ، أنت مراد، فيجيبهم بالصّمت، فيعيدون الكرّة، أنت مراد..فيصمت !!

كانت قدمي تتحرّك وكأنّها غاضبة تصرخ بي: “تحرّكِ! لقد اختلوا بابنك وسينهشونه بأنيابهم، ..صرخت بهم ..نعم إنّه مراد، وبندقيّتهم مصوّبة نحو رأسه، وهم يصرخون..لماذا تصمت .. تكلّم .

كلّ شيء في تلك اللّحظات كان يتفجّر ، إلاّ عقلي؛ كان يقول لي تصبَّري، لا تتهوَّري، فالصّبر عند الصّدمة الأولى، ولكن أسئلة تجول في خاطري..، هل مراد من نفّذ العمليّة، إذا هو؟ كيف كُشِف أمره..؟ ماذا حصل ؟

وبما أنّ الأيّام تُطوى كطيّ السّجلّ للكتب، بعد اعتقال مراد، هدمت قوّات الاحتلال منزله، وحكمت عليه بالمؤبّد، ليعيش طفولته في الأسر.

بسكّينه علّم مراد الأمّة بأنّ الثّأر ينبع من قلب اليقين، وتحدّي الإرادات، وبأنّ أخت المرجلة التي ثأر لها مراد، هي أخته وأختك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى