بقلم: بلال ستيتي
هناك قاده مجهولين قادوا المقاومة في أحلك الاوقات ، ولم يبخلوا على فلسطين بمالهم وأجسادهم وأعمالهم من أجل تحريرها ، رجال إرادتهم من حديد ، وقلوبهم عامرة بالإيمان بالله ، وبأنّ حبّ الوطن والعمل على تحريره فريضة واجبة، من هؤلاء الشّهيد زهير لباده ابن جبل النّار الذي ما تركه الاحتلال إلّا عندما تأكّد بأنّه لا مجال ليعيش فأخرجه ليستشهد على أرض نابلس التي أحبّها وأحبّته.
في رحلة علاج صعبة جدّا من سجن إيشل بئر السّبع في الجنوب الفلسطينيّ إلى مستشفى الرّملة، وبعد إجراءات تفتيش سيّئة دخلنا القسم قبل أذان المغرب مباشرة في شهر رمضان سلّمت على الأحبّة في جميع الغرف، وعندما ذهبت إلى الغرفة التي سأمكث فيها وجدت شيخا مبتسما رقيقا يدخل القلب بلا استئذان فتعارفنا، وأفطرنا وصلّينا التّراويح وهي والله أغرب وأجمل صلاة بحياتي كنّا خمسة أشخاص بالغرفة إمامنا الشّيخ زهير لباده وخلفه أنا والشّهيد أشرف أبو ذريع على كرسيّ متحرّك والشّهيد ربيع حرب ممدّدا على سريره وخامسنا أسير كانت نسبة عمل عضلة قلبه 17%. جميعنا بوضع صحّيّ صعب نبتهل إلى الله أن يفكّ أسر الأسرى والمسرى.
وجلسنا نتسامر فتعرّفت إلى بطل شامخ من أبطال فلسطين، أفنى حياته مجاهدا صلبا لا يعرف الذّلّ ولا الهوان ، كان من مؤسسي القسام بمنطقة نابلس وشمال الضّفّة الغربيّة، حيث لم يترك أيّ عمل جهاديّ الاّ وقام به مخلصا ودون أن يظهر نهائيا فقليل من يعرف سرّه رغم حبّ أهل نابلس له، وكانت أمنيته وهو يتحسّر على إغلاق مراكز تحفيظ القرآن الكريم في المدينة أن يوجد له طريقة تعليم إلكترونيّة يتواصل بها الأطفال في الحفظ ، حيث كان يقوم بتعليمهم القرآن الكريم في مساجد نابلس.
كان أبو رشيد يعاني من فشل كلويّ وغيره من الأمراض المتعدّدة، ورغم ذلك كان الاحتلال يسجنه إداريا لخوفه منه ، فهو طاقة جهاديّة مميّزة رغم الألم الذي يعانيه من خلال غسيل الكلى والذي يستمرّ لمدّة ستّ ساعات خلال ثلاث مرّات أسبوعيّا ، إلاّ أنّه لا يُظهر ألمه للمحتلّ ويبقى متحدّيا وجعه.
كان أبو رشيد رجلا ربّانيّا أحبّ فلسطين ومساجدها ، وقائدا من طراز فريد عنيد في قراراته التي يراها الأفضل للمصلحة العامّة، صلبا في مواقفه، وطيّبا في تعامله، لا يؤمن بأن هناك ما يحصل دون تخطيط وإعداد جيّد، صاحب وجهة نظر مميّزة، وتحليل عميق للأمور قبل اتّخاذ القرار المناسب من قبله في أيّ أمر كان، وكان كتوما لا يعطي من المعلومة إلاّ بحاجتها.
كان لي الشّرف بأن جالست علما من أعلام المقاومة في فلسطين، ممّن صنع مجدا نرى آثاره اليوم، إنسان صاحب خبرة إداريّة وتخطيطيّة وحياتيّة كبيرة جدّا، يشعر عندما تكون مهموما أو موجوعا وطبيب قلوب ماهر يضع يده على الجرح بحرفيّة عالية، كان عونا لي في مرضي رغم أنّ ما أعانيه لا شيء أمام من يغسل كلى من بدايات تسعينيّات القرن الماضي وهو في مرج الزّهور، جبلا راسخا صاحب روح عملاقة تسرح في ملكوت الله رغم ضعف جسده.
رغم المرض وما يعانيه رفض الاحتلال الإفراج عنه حيث اعتبره يمثّل خطرا كبيرا على دولة الكيان المسخ وأخرجه قبل استشهاده بأسبوع بعد تأكّده من أنّه لن يعود إلى بيته سالما فخرج إلى المستشفى الوطني بنابلس لكي تتكحّل عيناه برؤية نابلس قبل استشهاده في العام 2012، حيث لحق بأوّل استشهاديّ في فلسطين ساهر التّمّام الذي كان هو من جنده ، وبالعيّاش الذي كان يحتضنه ويساعده في مطاردته، وبأبي النّور صلاح دروزة رفيق دربه وجهاده وغيرهم المئات ممّن عمل معهم أبو رشيد بصمت من أجل فلسطين.
يا فلسطين، يحقّ لك أن تبكي دماء على من جاد بدمائه لكي تعودي حرّة عربيّة إسلاميّة، آه يا أبو رشيد رأس العين بنابلس تشتاق لك ومساجد نابلس ورجالاتها تتذكّر كلّ عمل خير قمت به ، لم ولن تنساك القلوب التي أحبّتك طوعا وكرها ، فأنت نبراس ينير الطّريق لمن يحمل الرّاية من بعدك ، فنم بسلام نوم الأبطال بعد جهاد السّنين الطّوال.