الضفة الغربيةشؤوون الأسرى

نائل البرغوثي ولقاء العظماء

بقلم: فؤاد الخفش

 

اصطفّ الأسرى في ساحة سجن “ريمون” العامّة ينظرون من بين فتحات شبك الباب الأزرق، الفاصل ما بين الحرّيّة والموت في قبو أُعدّ لقتل الرّوح داخل أجساد الفلسطينيّين، يرقبون القادم الجديد الذي أبلغ مدير السّجن أنّه سينزل في هذا السّجن المخصّص لذوي الأحكام العالية.

بانت ملامح الرّجل واختلف الأسرى في تحديد هويّته، ولكن الجميع أجمع أنه رجل كبير بالسّنّ، فلحيته البيضاء تملأ وجهه، وما هي سوى ثوان حتّى صاح حسن سلامة: هذا نائل وصرخ بأعلى صوته “أبو النّور”، فالتفت نائل نحو الباب محاولا تحديد الصّوت، ولكنّه لم يستطع تمييزه، فالأسرى هاجوا وماجوا ينادون نائل “أبو النّور” في موقف لم يستطع الكثير من الأسرى أن يتمالك نفسه، وذرفت الدّموع من تلك العيون التي تاقت إلى الحرّيّة.

فتح باب “اللّومان” ودخل نائل وتدافع 120 أسيرا فلسطينيّا حوله كلّ يريد تقبيله وعناقه، ونائل صامت تتلقّفه الأحضان إلى أن وصل إلى تلك اليد التي شدّت على يده، وتوقّف الزّمان حينها، وتلاقت العيون فإذا به محمود عيسى.

احتضن الرّجل الرّجل وأرخى رأسه على كتفه وشدّ يديه على وسطه وهمس في أذنه أن أعانك الله يا نائل، فردّ نائل: الفرج قريب لك ولي يا محمود، وببطء شديد ابتعدت الأجساد عن بعضها البعض ليعود نائل ويحتضن محمود ويقول له إنّ أمّك تهديك السّلام، ولم أتمكّن من زيارتها فخروجي ممنوع من منطقة سكني، ولكنّي هاتفتها وتحدّثت معها، هزّ محمود رأسه وعيناه تحملان ألف شكر وشكر.

كأقدم أسير في العالم أمضى فيما سبق 33 عاما متواصلة قبل أن يُحرّر في صفقة وفاء الأحرار نهاية 2011 ، ليعاد اعتقاله مرّة أخرى منتصف عام 2014 ويزجّ به في السّجن، ومهدّد بإعادة حكمه السّابق المؤبّد بدون أيّ تهمة، لم يحمل سوى كيس صغير به بعض الحاجيات، كل أسير من الأسرى يحاول خطفه ليحظى بشرف نزول نائل لديه في ذات الغرفة.

نائل ليس غريبا عن سجن ريمون ففيه أمضى ما يزيد عن عشر سنوات،  يعرف تفاصيل المكان ويحفظ كل زاوية من زواياه وكلّ تفصيلة من تفاصيله،  فبين الرّجل والمكان حكاية طويلة وقصّة كبيرة، مرّ من باب الغرفة رقم 5 وقال لحسن سلامة الذي كان يحتضنه: هنا أمضيت ثلاث سنوات متواصلة، هزّ حسن رأسه قائلا: في أيّ عام؟، فقال له ما بين 2005 إلى 2007، فردّ عليه حسن: كنت في عزل “إيشل –السّبع” حيث حاول أحد الأسرى الجنائيّين اليهود قتلي فقمت بحرقه بالزّيت المغلّي، ومضيا نحو القسم العلويّ يتبادلان الحديث والقصص التي لا تنتهي لدى الأسرى.

في زاوية ليست بالبعيدة، وقف عدد من الأسرى بينهم معمّر شحرور والشّيخ فتحي الخصيب يتحدّثون عن عهر الاحتلال ونقضه للعهود وتنكّره لبنود صفقة وفاء الأحرار، وبضرورة أن يكون هناك راع قويّ غير الرّاعي المصريّ ليضمن عدم تنكّر الاحتلال لأيّ اتفاق.

ما إن دخل نائل غرفته حتى استعدّ كل أسير لإخلاء مكان نومه للضّيف (صاحب المكان) في كرم عُرف به الأسرى،  واحترام لرجل حظي بمكانة كبيرة بين الأسرى طوال ثلاثة عقود من وجوده بالسّجون، وما بين عرض هنا وعرض هناك وقف حسن سلامة وقال لنائل: يا عريس نريد أن تطعمنا من يديك، فلا شكّ أنّ الحرّيّة والزّواج علّماك صنع طعام جديد، ضحك نائل وضحك الأسرى وبدأ نائل ليلته مرّة أخرى مع القيد  والأسر والسّجن والتّهديد بإعادة الحكم السّابق (المؤبّد)ضحك نائل ومعه الأسرى، فحال نائل كحال الكثير من الذين لا يخرجون من السّجن إلا ليعاد اعتقالهم مرّة أخرى، ولكن نائل وحكايته ومدّته الطّويلة التي أمضاها ليست كأيّ حكاية، فهي حكاية فلسطينيّ

لا يريد له الاحتلال أن يعيش خارج السّجون.

دائما أقول أنّ الشّبه بين نائل وفلسطين كبير وأنّ نائل هو فلسطين، فلسطين التي صمدت طوال السّنين الماضية في وجه القتل والاقتلاع والإفناء، فصبرت كصبر نائل كلّ هذه السّنين في وجه الإنهاء وقتل الرّوح، حتى حُرّر من سجنه وروحه تأبى الانكسار ونفسه لا تقبل عن الحرّيّة بديلا.

عاد نائل إلى سجنه ينتظر موعد الفرج والحرّيّة،  لا أعلم إن كان في عمر نائل عقودا أخرى داخل السّجون أم أنّ الحرّيّة ستكون قريبة، كلّه في علم الله ولكن  كلّ ما أعرفه هناك أن نائل لن ينكسر، ففلسطين لا تهزم وعدوّها سيُهزم.

نائل حبيبنا وأخانا نشهد أنّك لم تستكن يوما وعدت لتلتحم مع الوطن لتشارك الشّعب جرحه، خرجت مرّات ومرّات من أجل الأسرى ومناصرة للقضايا الوطنيّة تدافع عن حقوق شعبك، الحرّيّة قريبة والنّصر قريب، كتبت هذه الكلمات التي وصلتني عبر صور وأحاديث سمعتها من هنا وهناك لأرسم عنكم لمن لا يعرفكم صورة، وأكتب حكاية أبطالها حقيقيّون نعشقهم ونحبّهم ونتمنّى أن تذوب السّجون لنلتقيهم.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى