بقلم :مروان أبو فارة
تشكّل قضيّة الأسرى الفلسطينيّين في سجون المحتلّ الصّهيوني الغاصب ملفّا مهمّا من آخر الملفات التي يمكن القول أنّها تجمع الكلّ الفلسطينيّ المشتّت مع أنّه قد تطرّق إليها الكثير من التّشرذم والانقسام والانعكاس التّام الكامل لحال الشّعب في الخارج فسأحاول من خلال تجربتي مع الحركة الأسيرة أن أوقفك أيّها القارئ الكريم على حقيقة قضيّة الأسرى الفلسطينيّين وكيف تحوّلت في عدّة محاور إلى قضيّة يشوبها الكثير من الغموض المتعمّد وكيف تحوّل جزء من تضحيات الأسرى إلى لطميّات مؤقّتة لا يمحو اللّطميّة الأولى إلاّ أخرى يتناولها الإعلام ويزيد عليها ويرغي ويزبد ثمّ تذوي جذوة التّنظير والاستغلال إلى لطميّة جديدة وما يستفيده الأسير من هذه الجعجعات الإعلاميّة تماما هو الهباء.
لا غرو أنّ أيّ بلد يتعرّض لاحتلال تنشب فيه معارضة ومقاومة وممانعة لذلك المحتلّ وتتطوّر أساليب المقاومة والرّفض في تواز مع تطوّر أساليب المحتلّ في قمع تلك المقاومة والمعارضة. وفي بدايات القرن المنصرم كان الحلّ المتوفّر والسّريع لدى الاحتلال الممهّد للاحتلال الحالي هو القتل وتهديم البيوت وأحيانا السّجن وكما العادة فإنّ الاحتلال يرث أساليب احتلال آخر ويطبّقها، فمنذ أن حمل أوّل فلسطينيّ السّلاح في وجه الاحتلال البريطاني الممهّد للاحتلال الصّهيوني كان السّجن واحدا من الخيارات التي تعرّض إليها ذلك المقاوم والرّافض للاحتلال وهنا يجدر بنا تسجيل ملاحظة تاريخيّة مهمّة وهي أنّ أولئك الذين حملوا السّلاح في وجه المحتلّ الأوّل قد تعرّضوا إلى هضم شديد وعسف ظالم لحقوقهم ذلك أنّ الفصائل الحالية تؤرّخ للثّورة الفلسطينيّة فقط من خلالها انطلاقها أو أعمال عناصرها لا غير وهذا من الظّلم الموازي لظلم الاحتلال حيث يمحق تاريخ شعب كامل لأنّه لم يكن مؤطّرا أو تابعا لفصيل بعينه.
نعود الآن إلى الحركة الأسيرة، فبعد الاحتلال الصّهيوني لكامل أرض فلسطين كان من حلول الاحتلال إدخال المقاومين والرّافضين له السّجن بهذه الحجّة أو تلك ففي زمننا هذا لا تعوز الاحتلال أو الطّغاة الأسباب لزجّ أيّ إنسان في السّجن بتهمة أو بدونها.
ينقسم تاريخ الحركة الأسيرة في شكلها الحالي إلى ثلاث مراحل، أمّا الأولى فهي مرحلة ما بعد الاحتلال مباشرة إلى توقيع اتّفاق التّنازل في أوسلو، ومن ثمّ من بعد أوسلو إلى اندلاع انتفاضة الأقصى، والمرحلة الثالثة تأتي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة من قبل حركة فتح وأتباعها على الحكومة الشّرعيّة عام 2007 ، وربّما لا يكون هذا التّقسيم هو التّاريخ الدّقيق لمسيرة الحركة الأسيرة، غير أنّ التّقسيم بهذه الصّورة يرصد ما يمكن تسميته الحالة المخبريّة التي يهيّئها الاحتلال للأسرى محاولا إجراء التّعديلات الايديولوجيّة والفكريّة لينال ما يريد عبر كسر آخر حصون المقاومة الوجدانيّة والفكريّة له وهذا ما سنتكلّم عنه في حينه.
إنّ الأسرى الفلسطينيّين يتعرّضون إلى ما يمكن تسميته تجارب مخبريّة موجّهة في شتّى المجالات بدءا من المرحلة الأولى للاعتقال حيث يكون التّركيز على النّاحية النّفسيّة ويستمرّ ذلك خلال مرحلة التّحقيق ومن ثمّ ينتقل إلى ما يمكن تسميته الاستهداف الصّحّي الجسدي عبر إدخال الأسير في دوّامة النّقل البغيض ومكان الاحتجاز العفن، ومن ثمّ إذا استقرّ في مكان ما وعلى حكم ما، يبدأ الاستهداف الفكريّ والأيديولوجي وهكذا يكون الأسير في حالة استهداف مستمرّة تمتدّ إلى ما بعد مرحلة السّجن والتّحرّر الوهميّ.
غير أنّ هناك عدّة أمور يجب علينا أن نوضّحها قبل الحديث عن المسائل التّفصيليّة للحركة الأسيرة:
أوّلا هناك مفاهيم وتصوّرات تعتبر مسلّمات عند البعض فمثلا لك أن تتصفّح المواقع المهتمّة بالأسرى الفلسطينيّين فتجد أنّ الحديث عن مرحلة الاعتقال والتّحقيق هو نفسه منذ سبعينيّات القرن المنصرم ولم يخطر ببال من ينشر المعلومات الخاطئة هذه أن يصحّحها أو يحدّثها في بلد يعتقل العشرات من أبنائه يوميّا فمثلا بعد حادثة استشهاد الأسير عبد الصمد حريزات في نهاية القرن المنصرم أثناء التّحقيق معه توقّف استعمال التّعنيف الجسديّ لكلّ محقّق معه إلاّ حالات خاصّة يطلق عليها المحتلّ اسم القنبلة المؤقّتة ويتّبع معه أساليب محدّدة ولفترة محدّدة يجدّدها القضاء العسكريّ الصّهيونيّ كلّما احتاج المحقّقون إلى ذلك. وأساليب الشبح توقّفت منذ فترة طويلة جدّا والشّبح المستعمل الآن والذي يتحدّث عنه الأسرى هو الرّبط بالقيود أثناء الجلوس على الكرسيّ في جولة التّحقيق التي قد تستمرّ لأيّام وكذلك فإنّ التّحقيق المعتمد غالبا هو التّحقيق بالمنطق حيث يعتمد المحقّقون في البداية تأسيس قاعدة ما من الثّقة التي ربما تتطوّر لاحقا إلى ثقة عمياء وتصديق مطلق أنّ المحقّق يريد مصلحة المحقّق معه وهنا تحديدا تحدث كوارث الاعتراف. وما زال البعض يصوّر لأتباعه أنّ التّعذيب الجسديّ هو المعتمد في التّحقيق حتى المواقع الرسمية ما زالت تلوّح بذلك والمعارض السنوية للأسرى تكرّس هذا الفهم الخاطئ.
وينسحب السّابق على كلّ الملفّات التّفصيليّة للحركة الأسيرة، فمثلا منذ أن برزت مسألة الإضرابات الفرديّة لتحقيق الإنجازات الفرديّة لا يتمّ التّعامل مع ملفّ الأسير أو متابعته إلاّ إذا تعدّى حدّا معيّنا من الأيّام التي تربو على الشّهر فيكون التّعاطف معه والتّحرك من أجل قضيّته إعلاميّا بحتا وتحرّك آخر محدود يشمل عائلته وأهله وربّما بعضا من رفاقه في الأسر الذين يشعرون بما يشعر به من الخذلان، ولم يتمّ إلى الآن صياغة مشروع عامّ بصورة وطنيّة بعيدا عن تصويره كإنجاز لفصيل بعينه يُنهي مسألة التّفرّد بالأسرى مع أنّك ستجد أنّ أشدّ الكلمات بلاغة وفصاحة واستعراضا تقال بحقّ الأسرى والأسرى فقط وكأنّهم تحوّلوا إلى مصعد للشّهرة يستعمله من يعييه الوصول الشّريف إلى مبتغاه فيستغلّ آلام النّاس ومصابهم ليقال أنّه مهتمّ بشؤون الأسرى.
وأمر أخير يُظهر كيفيّة التّعامل مع الأسرى في هذا البلد المحتلّ: ستجد إن تجشّمت عناء البحث أنّ الأسير مطالب برفض الاحتلال ومقاومته وكذلك بعدم الانصياع لخطّته التّدجينيّة وانتزاع حقوقه من أنياب المحتلّ، وعليه بعد التّحرّر أن يركض كعبد من دائرة إلى أخرى يجدّد أوراقه ويعتمدها، وأن يتضامن مع رفاقه وأن يعيد الكرّة مرّة أخرى، والأهمّ عند أصحاب القرار من كلّ التّوجّهات ألاّ يشكو أو يئنّ تحت وطأة الحياة المريرة التي يحياها. وهذا مؤشّر خطير على كيفيّة النّظر للأسير في مجتمع معظمه كان أسيرا أو كاد أن يكون وعليه فإنّ هذه السّلسلة بإذن الله ستسلّط الضّوء على الزّوايا التي يتغافل عنها البعض عمدا أو يحاول الاستغلاليّون العاطفيّون الانتهازيّون طمسها عمدا لتبقى صورة مظلوميّة يتاجرون بها أمام النّاس ويستغلّون العاطفة العارمة تجاه قضيّة كانت ولا زالت وكلّ ما يتعلّق بها قضيّة الأمّة والأحرار في العالم.
إذن فالحديث هاهنا سيكون عن عدّة محاور في قضيّة الأسرى بدءا من التّعامل الإعلاميّ الاستغلاليّ للمسألة إلى التّفرّد بالأشبال في مواقع معيّنة ودور بعض المتنفّذين في ذلك التّفرّد وكذلك بحث بعض القضايا التي تمسّ حياة الأسرى ولم تظهر للعلن لهدف أو لآخر والله غالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.