عمداء الأسرى

الأسرى القدامى

بقلم/عبد الناصر عوني فروانة

واحدٌ وأربعون أسيرًا قد مضى على اعتقالهم بشكل متواصل أكثر من عشرين عامًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي. بينهم سبعة عشر أسيرا مضى على اعتقالهم أكثر من ربع قرن، ومن بين هؤلاء سبعة أسرى كانوا قد تجاوزوا في الأسر الثّلاثين عاما وما يزيد، وإذا ما أضفنا إلى هؤلاء، أولئك الذين سبق أن تحرّروا في صفقة “وفاء الأحرار” وأعيد اعتقالهم ثانية، فان الأرقام ستتضاعف.

أرقام مذهلة، مؤلمة، محزنة، تدخلهم قسرًا في موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية العالمية، بشكل فرديّ وجماعيّ، ومصطلحات مستحدثة اقتحمت القاموس الفلسطينيّ بقوّة لتحجز لها مكانا ثابتا. كما باتت معتمدة في قاموس الحركة الأسيرة، ومتعارفا عليها لمن يتابع شؤونها وهمومها وقضاياها.

(الأسرى القدامى، عمداء الأسرى، جنرالات الصبر، أيقونات الأسرى)، مصطلحات تحمل في ثناياها معاني ودلالات كبيرة: فمصطلح “الأسرى القدامى” يُطلقه الفلسطينّيون على أولئك الذين اعتقلوا قبل توقيع اتفاقية”أوسلو” للسلام، ولم يحقق لهم السّلام حرّيّتهم المنشودة.

ومع استئناف المفاوضات الفلسطينيّة – الإسرائيليّة أواخر تمّوز/ يوليو عام 2013. كان الطّرفان المتفاوضان قد اتّفقا، برعاية أمريكيّة، على إطلاق سراحهم جميعًا على أربع دفعات، خلال تسعة شهور، وفيما التزمت إسرائيل بإطلاق سراح الدّفعات الثّلاثة الأولى، فإنّها تنصّلت من الاتّفاق ورفضت إطلاق سراح الدفعة الرابعة التي كان من المفترض تحرير أفرادها في أواخر آذار/مارس من العام 2014، مما دفع الطرف الفلسطيني إلى وقف المفاوضات.

لقد مرّ أسرى ما قبل أوسلو بتجربة صعبة ومريرة، ما بين القيود التي فرضتها حكومات الاحتلال حول إطلاق سراحهم، والشّروط السياسية والابتزاز الذي تمارسه على القيادة الفلسطينية، وخاصة قيام تلك الحكومات بتجزئة الأسرى وتصنيفهم حسب الانتماء السياسي ومكان السكن وحسب التهم الموجهة إليهم، مما يعتبر مساسا بوطنيتهم ووحدتهـم النضاليـة، ومحاولة للتفرقة بينهم والتعاطي معهم كأفراد ووفق ملفات حمراء وخضراء.

أما مصطلح “عمداء الأسرى” فيُطلقه الفلسطينيون على من أمضوا في اعتقالهم في السجون والمعتقلات الإسرائيلية بشكل متواصل أكثر من عشرين عاما، بينما تطلق عبارة “جنرالات الصبر” على الفلسطينيّين الذين أمضوا في اعتقالهم أكثر من ربع قرن، باعتبارهم أكثر الأسرى صبرًا وتحمّلاً للبطش والعناء والعذابات، أما “أيقونات الأسرى” فهو مصطلح استُحدث بعد تزايد أعدادهم، وهو يبعث في النفوس الألم والمرارة والشعور بالعجز، لأنه يتحدث عن أسرى أمضَوا في السجون بشكل متواصل ما يزيد عن ثلاثين عاما، وحتى كتابة هذه السطور كان عددهم سبعة أسرى، أقدمهم الأسير كريم يونس من المناطق المحتلة عام 1948 والمعتقل منذ 6 يناير1983. فيما هناك في السجن الاحتلال الأسير “نائل البرغوثي” وهو واحد من ستين أسيرا أعيد اعتقالهم ثانية بعد تحريرهم بفترات وجيزة ضمن صفقة “وفاء الأحرار” أمضى ما مجموعه -على فترتين- ما يزيد عن خمسة وثلاثين عاما ويُعتبر أكثر الأسرى قضاء للسنوات في سجون الاحتلال النازية..!!

إن معاناة هؤلاء الأسرى تتضاعف، وقصصهم تزداد ألمًا وقسوة، وحكاياتهم مع الأسر مريرة ولا تُنسى، وهم من ذاقوا مرارة السجون وألم القيد وقسوة التعذيب بأشكاله الجسدية والنفسية، فتسربت الأمراض وانتشرت  في أجسادهم واستوطنت بداخلها دون أن يتلقوا العلاج اللازم، فأنهكتهم وزادت من معاناتهم، وهم أيضا من عاصروا أجيالا وأجيالا، فاستقبلوا آلاف الأسرى الجدد، وودّعوا أمثالهم، فيما أجسادهم لا تزال مقيدة بين جدران الزنازين تبحث عن ثقب لترى من خلاله قرص الشمس. ولكل واحد من هؤلاء حكاية خاصة مع الأسر تتشابك في الكثير من جوانبها مع التجربة الجماعية، فبعضهم أمضى في السجن سنوات من عمره أكثر مما أمضاه خارجه، وبينهم من ترك أبناءه أطفالاً، ليكبروا بعيدا عنه ويلتقي بهم شبّانا داخل السجن، ومنهم من فقد أمه أو اباه أو كليهما ليصبح لطيمًا، أو فقد أخاه أو أخته أو أكثر من فرد في العائلة دون أن يسمح له بإلقاء نظرة الوداع أو المشاركة في تشييع الجثمان الى مثواه الأخير.

كل هذا رغم حقيقة أن تجارب صمودهم – الجماعية والفردية – ما تزال تشكل نماذج فريدة ومميزة، في الوعي الجمعي الفلسطيني. وكل هذا وذاك يحتاج إلى أشهر الكتاب والمؤرخين لتدوينها وتوثيقه،  فيما المطلوب من الجميع،سياسيا كان أو حقوقيّا، إعلاميّا وناشطا مجتمعيّا، مقاوما أومفاوضا، دعمهم وإسنادهم والضغط باستمرار لوضع حد لمعاناتهم ومعاناة عائلاتهم وضمان إطلاق سراحهم وعودتهم إلى شعبهم الذي طال انتظاره لهم. وإذا كنا نفخر ونشمخ بهم ونعتز بصمودهم وثباتهم خلف القضبان وتحديهم للسّجّان –وهذا حقهم علينا وواجبنا تجاههم- فعلينا بالمقابل أن نخجل من أنفسنا لاستمرار بقائهم في السجون طوال تلك العقود وعجزنا عن تحريرهم. مع التأكيد دوما على أن نصرة الأسرى ومساندهم والسعي إلى تحريرهم هو واجب شرعي ووطني وديني ، بل أخلاقي وإنساني.

 

اللّهم فرّج كربهم وأطلق سراحهم وأعيدهم الى أهلهم وأحبتهم سالمين ياربّ

 

“وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا”

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى