الأسير المحرّر : م. بلال ستيتي
يتباين الأسرى في سجون الاحتلال المختلفة في مستوياتهم الثّقافيّة والتّعليميّة والفكريّة، فالجهاد في سبيل الله وفي سبيل الوطن ليس مقصورا على فئة معيّنة من المجتمع، فقد عشت في غرفة في سجن مجدو يشاركني فيها حامل درجة الدّكتوراه في الاقتصاد والهندسة والآداب وغيرها، وحامل درجة الماجستير والبكالوريوس والدّبلوم والثانوية العامّة، وكذلك الأمّي الذي اتّجه إلى تعلّم حرفة واستفاد منها في العمل لمقاومة المحتلّ، فكان فيها الوزير، دكتور الجامعة، الميكانيكي وطالب التوجيهي وغيرهم .
منذ خمسينيات القرن الماضي ومنذ تأسيس السّجون الصّهيونيّة كان هناك صراع ما بين الفلسطيني المظلوم والصّهيوني الظّالم في الحصول على العلم والقراءة والثّقافة داخل السّجون، فلا غرابة في أنّ أغلب الشّعب الفلسطيني قادة ومفكّرين وأدباء ومثقّفين هم خرّيجو السّجون الصّهيونيّة التي حوّلوها من محنة إلى منحة يتحدّون بها واقعهم نحو المستقبل، حيث نجح الأسرى بشكل كبير بإصرارهم وتضحياتهم ونضالهم المستمر تدريجيا، وبشكل تراكمي متصاعد عبر سنوات من الجدّ والاجتهاد فى تحويل مدافن الرّجال والطّاقات، إلى قلاع نضاليّة جهاديّة مشرقة، وجعلوا من سجونهم مدارس وجامعات فكريّة متعدّدة ومتنوّعة خرّجت أجيالاً متعاقبة من المتعلّمين والمثقّفين ومن حفظة القرآن والمبدعين في مختلف المجالات في الدّين والأدب والهندسة والإدارة والتّنمية البشريّة واللّغات وغيرها قادوا المرحلة التي بعدها في الجامعات والنقابات والتنظيمات والبلديات وغيرها.
كثيرة هي الوسائل التعليمية التي ابتدعها الأسرى في السّجون تحدّيا للسّجّان وممارساته القمعيّة اليوميّة، حتى حوّلوا مفهوم السّجن من بديل لحبل المشنقة إلى أكاديميّة نضاليّة وفكريّة وتربويّة وتعليميّة مميّزة، يتمّ خلالها تكريس ثقافة الحقّ الفلسطيني في وجه الظّلم الصّهيوني من أجل غد مشرق، فى ذلك الصراع الأشدّ بين الجدران والزنازين من خلال الإضرابات عن الطعام لمطالبتهم بالحصول على الورقة والقلم، ومن ثمّ إدخال الكتب ، والسّماح لهم بالدّراسة في الجامعات الصّهيونيّة والفلسطينيّة، إلى السّماح لهم بعقد الجلسات التعليمية والثقافية بشكل دائم ومستمر.
في النقب يجتمع الأسرى من مختلف المدن والقرى الفلسطينية في أكبر مكان لتجمّع الفلسطينيين في السّجون بعد صلاة الجمعة.
يوما ما سألت الشابّ العشريني الخطيب ما شاء الله ماذا درست وأين ؟ فصعقني بالقول أنّه بمحو الأمّية في السّجن تعلّمت أن أقرأ وأكتب وتعلّمت الكتابة الأدبيّة الإبداعيّة والخطابة خلال السّنوات الماضية فحوّلت حياتي من الجهل إلى نور العلم واستغليت الدقائق والسّاعات لكي أخرج إلى بلدي “جيوس” أحمل الفهم والمعرفة وتعلّمت تجويد القرآن واللّغات ، فشجّعني حتّى أكتب عن إبداعات الأسرى في كتاب أسميته آهات العزّ أسأل الله أن يرى النّور يوما ما، وحصلت على إجازة في تجويد القرآن الكريم برواية حفص وزدت من خبرتي بالإنجليزيّة وتعلّمت العبريّة بعد التقائي به.
دخل الكثير من الأسرى السّجون دون حصولهم على الثّانوية العامة الفلسطينية وبعد إضرابات وإصرار تمّ السّماح لهم بتقديم الامتحان منذ العام 1971، ورغم أنّ الاحتلال يضيّق عليهم في تقديمه، فإنّ الكثير من الدّورات التّعليميّة كانت تُعقد في مختلف المواد وكان لي شرف المشاركة فيها في مواد الرّياضيّات والعلوم ، فكانت السّجون مثل خليّة النّحل التي ينشط فيها الأسرى من أجل نجاح إخوانهم وحصولهم على ما يعينهم على إكمال الدّراسة الجامعيّة في السّجون أو الخارج.
في السّجون المركزيّة خصوصا تجد الكثير من الأسرى ممّن يدرس في الجامعات الصّهيونيّة بعد جهد وإلحاح على إدارة السّجون عن بعد في العلاقات الدّولية أو الدّراسات الصّهيونيّة أو غيرها من البرامج والتي تخرّج منها المئات، وفي السّنوات الأخيرة تمّ السّماح في بعض الجامعات والكلّيّات في غزّة باستكمال الدّراسة عن بعد في السّجون التي بها أصحاب درجات علميّة من الماجستير والدّكتوراه، فكثير منهم حصل على درجات علميّة من داخل الأسر وبعضهم حصل على درجة الدّكتوراه وهرّبها إلى الخارج وناقشها عبر الجوّال المهرّب للأسرى داخل السّجون، والآن هناك مشاريع في الكنيست الصّهيوني وممارسات عمليّة من أجل منع الأسرى من الدّراسة في الجامعات والتّضييق عليهم بشكل كبير بسبب أسر المقاومة لجنود صهاينة في غزّة وإصرارها على مبادلتهم بحريّة أبطالها.
وممّا رأيته من تحدّ للسّجّان أنّ أحد الأسرى كان يدرس الشّريعة في جامعة النّجاح ، وله أكثر من عشر سنوات لم يتمكّن خلالها أن يتخرّج بسبب الاعتقالات فتواصل مع الجامعة وأبلغهم بأن أحد الدّكاترة في الشريعة أو اثنين معه في القسم بالنقب، وأنّه يريد أن يدرس المادّة ويحضر محاضراتها ويقدّم الامتحان من أجل أن يفرح أهله بتخرّجه وهذا ما حصل، وكان الدّرس في مادّة العقيدة الإسلامية متاحا في الخيمة لمن أراد الاستفادة وكان نقاشا مفتوحا استفدنا منه جميعا في القسم وفرحنا بتخرّجه.
وتتيح الدّراسة في السّجون الحصول على تكوين متنوّع المشارب، فأنا مثلا قد حصلت على دورات في التّنمية البشريّة والإدارة وعلوم التّجويد والقرآن والتّفسير والتّاريخ الفلسطيني واللّغات وفي الاقتصاد والنّحو وإعداد دراسة الجدوى الاقتصاديّة وإدارة الأزمات وغيرها كثير، وثمّة آخرون ممّن أمضوا سنوات قد أصبح بعضهم موسوعة فكريّة سياسيّة ثقافيّة دينيّة وحاصل على أعلى الدّرجات، ومنهم من فتح مراكز للتّدريب والاستشارات وأصبحوا محلّلين سياسيّين وإعلاميّين في أكبر المحطّات الفضائيّة، ومدرّسين بالجامعات الفلسطينيّة، لكي يقولوا للسّجّان:”إنّكم تسجنون الجسد ولا تستطيعون سجن الرّوح والإبداع في عقل المقاوم الفلسطيني وقلبه.
يتبع…