بقلم: دكتورة كفاح أبو هنود
أحتاج أن أكتب كلّ ليلة.. أحتاج أن أنتقم من الزّنزانة بالهروب إليكِ.. أعوام عجاف في سجن مثل برزخ لا سقف له ولا قاع.. نسبح في فضاء غائم من الانتظار.. يريد السّجّان أن تكبر فيه المراثي.. ولغة الحزن.. ونبرة خالية من الزّينة.. وأنا لا زلت أقاوم وأتحدّث عنك.. أعلم أنّ هذا يأخذك بعيدا عن الدّوائر الحزينة.. فأنا أعرفك جيّدا.. أعرف مثلا أنّ غضبك مؤقّت وينتهي على شاطئ ابتسامة…
أعرف لمعة عينيك في الفرح .. بل وأذكر كلّ صرخاتك الجذلى أمام قطعة حلوى أحملها لك في آخر النّهار..
أعرف كم تحبّين المرح.. أعرف كم كان يغيظك أن يدوس عابر على مساحة علاقتنا.. وكنتِ في ثورتك رقيقة.. كنت أقول لك أنّ طبيعة النّاس الثّرثرة.. فتردّين.. ولكن ليس في الأماكن المقدّسة!.. أنت تعرفين الآن أنّهم استباحوا كلّ شيء.. حتّى دموعي يعرفون مواعيد تساقطها..
لازلت أتأرجح بين وحشيّة هذا المكان وبين الهزيمة.. يقال أنّ الملامح إذا تجذّرت فيها التّجاعيد فهذا دليل على انتصار المأساة علينا.. لهذا أرتجف حين أرى خطّا جديدا في جبهتي.. أرتجف وأنا أسمع صوت الزّمان يسير في جسدي .. وأرتجف أكثر لو سمعته يسير في قلبي!.. أرجوك لا تبكي.. فأنا أصغي إليك جيّدا وأصغي إلى صوت الذّكريات الرّائعة.. حين أهامسك تجري الأيّام في دمي وتحتشد الحياة في روحي وأنبت من جديد.. لذا لا تبكي.. فقط اِبقي على ضفّة الانتظار كي لا أموت !
يقال أنّه في كلّ يوم تتساقط ملايين الخلايا الميتة من جلد الإنسان.. لهذا حرصت في أوّل ليلة في السّجن أنّ ألمّ ملاءة السّرير وانفضها برفق في مغلّف كتبت عليه.. هذا ما تبقّى لي من آخر لقاء ! .. جمعت بعضك معي في الزّنزانة ومن يومها اتّسع الفضاء ! .. وحتى لو غادرني صوتك فلا زلت قادرا على أن أسير كلّ ليلة بمحاذاة روحك ..
في اللّيل أسمعك قصيدة .. وأرى الكون مرويّا بك .. وفي لحظة تمطرين على قلبي المحترق .. وتختفي أعواد الثّقاب .. آه لو تعلمين أنّ في الزّنازين أعوادا تكفي لاشتعال العالم بالألم..
لقد قال لي أسير سابق أنّ ذاتك هي أخطر موضوع في السّجن .. تَفَقّد مؤونة قلبك .. ابتسمت له .. ورحت أفتّش عنك
يقال في المثل الألماني أنّ مشاركة الحزن يجعله ينقص للنّصف .. وأنا أراه معك يتضاعف فرحا .. هل تعرفين ما هو سرّك ؟! .. أنّك منحتني ومضة الأمل في هذا الخراب .. وصرت عنيفا في معركتك رغم أنّي في الزّنزانة أعزل إلاّ منك !
حين أكتب إليك أنظّف الزّنزانة من كلّ شيء رديء وأتهيّأ للحروف تعبق بحضورك .. وأطير فوق المجرّة .. ربّما ستضحكين طويلا لو علمت أنّي دعوت على السّجّان بأن لا يذيقه الله طعم الحبّ .. وأن لا يجرّب أجراس الفرح ! .. أوّاه.. أشعر أنّك تضحكين وتشرقين بالدّموع وهذه واحدة من أجمل أمنياتي ..
ممتنّ لله أنّه تركني أرافقك .. ممتنّ أنّك معي حتّى لا تتشابه الأيّام .. ممتنّ أنّك تطوّقين قلبي فأنسى طوق القضبان .. هل تعلمين أنّك من قصدها الشّاعر بقوله
“وصن ضحكة الأطفال يا رب إنّها .. إذا غرّدت في موحش الرّمل أعشبا.. “
أعلم أنّك سعيدة فكلّ الإناث يرغبن بطفولة لا تنتهي .. وهذا بيت شعر أضيفيه إلى رصيدي من المفاجآت .. لو تدرين .. أنّي أسأل الله كلّ ليلة بمفاجآتي لك أن يهبني فجأة العودة إلى دروبك..
اسمعيني .. في كلّ ظهور إعلامي احملي ابتسامتك وقفي مثل النّبع واجعليهم يخافون من الحقول الآتية .. اجعلي كلّ إيماءة وعد بالجبروت .. ربّما في منتصف الأشياء .. في منتصف الوقت .. وفي منتصف الوعد نظنّ أنّ الأيّام خالية إلاّ من مقابر الأمل .. صدّقيني كما ينقص الحزن بالمشاركة فإنّ الطّريق إلى اللّقاء يقصر بالدّعاء الكثيف .. دعينا نلتقي على سجّادة حبّ .. و يقينا سنصلّي سويّا سجدة الشّكر!