بقلم/ عبد النّاصر فروانة
لعلّ أكثر اللّحظات ألما وصعوبة، وأسوأ ساعات اليوم ودقائق العمل ثقلا، هي تلك التي نقرّر فيها الكتابة أو الحديث عن أولئك الذين يتحالف عليهم المرض ووجعه، والسّجن وعذاباته، والسّجّان وقسوة معاملته، إذ يعيش الأسرى الفلسطينيون في السجون والمعتقلات الإسرائيلية أوضاعا صحّية استثنائيّة،
قلّما يعيشها أسرى أو معتقلون في مناطق أخرى من العالم، فصور معاناتهم متعدّدة، والانتهاكات بحقّهم كثيرة، ولدينا مئات الشّهادات والقصص القاسية التي تروي تفاصيل سوء الظّروف وقسوة المعاملة،
وتعكس حجم المأساة وأشكال المعاناة وبشاعة التعامل الصّهيوني مع أكثر القضايا الإنسانيّة لتؤكّد بمجموعها أنّ الملفّ الطّبّي هو الأقسى ألما ووجعا والأكثر إلحاحا وسخونة من بين ملفّات الحركة الوطنيّة الأسيرة خصوصا مع استمرار استهتار الاحتلال بحياة الأسرى المرضى والمصابين وتدهور أوضاعهم الصّحّية وتصاعد الاعتقاد باستخدام سلطات الاحتلال أجساد الأسرى حقول تجارب للأدوية الجديدة.
ولعلّنا لا نبالغ إذا ما قلنا بأنّ ربع عدد الأسرى والمعتقلين القابعين في سجون الاحتلال والذين يُقدّر عددهم الإجمالي بسبعة آلاف أسير، يعانون من أمراض مختلفة وإصابات متنوّعة، وتفترس أجساد بعضهم الأمراض الخطيرة والخبيثة، دون أن يحظوا بأيّ قدر من العناية والرّعاية، حتّى رأينا منهم من فقد القدرة على أداء الأنشطة اليوميّة الاعتياديّة بنفس الكفاءة، ومن لم يعد مستطيعا قضاء حاجته الشّخصيّة، دون مساعدة رفاقه في السّجن، بحيث يمكن القول بأن العشرات من هؤلاء هم، في الحقيقة، إنّما يحتضرون في انتظار ساعة الوفاة والرّحيل الأبدي، والتي يتمنّى بعضهم أن تأتي مسرعة لشدّة الألم.
“منصور موقدة”، “رياض العمور”، “خالد الشاويش”، “محمد ابراش” ،”ناهض الأقرع”، “يسري المصري”، “فؤاد الشوبكي”، “معتصم رداد”، “مراد أبو معيلق”، “سامي أبو دياك”، “جلال شراونة”، “بسام السايح” والأسيرة “عبلة العدم”، وغيرهم كثير هم نماذج مؤلمة لأولئك الذين نتحدّث وسنتحدّث عن أمثالهم كثيرا.
إنّهم مرضى ولكنّهم ليسوا كغيرهم، وسجناء ليسوا كالسجناء: فهم مرضى لا يعتني بهم أحد، وهم سجناء مصفدون بسلاسل من الحديد، تزيد ألمهم ألما، وتقيد حركتهم وتضيف إلى سجنهم سجنا. إننا أيها السادة أمام سجن مضاعف، وألم متصاعد، وأجساد منهكة ومحطمة، وعظام ضعيفة تزداد هشاشة، وكتل لحمية مدمرة ومفتتة، وقلوب توشك عضلاتها أن تتوقّف، بل إنّ بعضهم مبتور الأطراف، فاقد السّمع والبصر، يأكله السّرطان والأمراض غير المعروفة لغياب التّشخيص وانعدام الرّعاية في ظلّ سياسة الإهمال الطّبي المتعمّد.
هكذا هو حالهم بين جدران السّجون المعتمة وفي خيام المعتقلات الممزّقة، وعلى أسرّة ما يُسمّى “مستشفى” سجن الرّملة الذي لا علاقة له بالشّروط اللاّزم توافرها في المشافي الطّبّية.
إنّ حلم هؤلاء الأسرى بالعودة إلى بيوتهم – بعد انقضاء محكوميّاتهم- سيرا على الأقدام، يتلاشى مع مرور كلّ يوم جديد. كيف لا، وقد علموا بأن سبعة وخمسين أسيرا منهم قد استشهدوا داخل سجون المحتلّ، منذ العام 1967، من جرّاء الإهمال الطّبي،
ليس آخرهم الأسير “محمد عامر الجلاد” (25 عاما) من طولكرم، والذي استشهد في مستشفى بلنسون الصّهيوني بتاريخ 10شباط/فبراير2017، حيث كان معتقلا منذ 9 نوفمبر 2016 بدعوى محاولته تنفيذ عمليّة طعن على حاجز حوارة، وقد أُصيب حينها في الصّدر، وكان يعاني من تدهور وضعه الصّحّي بسبب الإصابة، وكان يعاني أيضا من سرطان الغدد اللّمفاوية.
إنّ سلطات الاحتلال تتعمّد إلحاق الأذى بصحّة الأسير الفلسطيني وحياته في إطار سياسة ممنهجة، وإنّ الأطبّاء والممرضين العاملين في سجون الاحتلال، هم شركاء في الجريمة، حيث أنّ غالبيتهم يتجرّدون من أخلاقهم المهنيّة والطّبية حينما يتعاملون مع الأسير الفلسطيني، وأنّ جميعهم يتلقّون تعليماتهم من الأجهزة الأمنيّة التي يقول لسان حالها: إمّا أن يموت الأسير الفلسطيني فورا، وإمّا أن تستمرّ معاناته ويتحوّل إلى عالة على أسرته وشعبه ويموت تدريجيّا. ولا فرق إن كان هذا سيحدث داخل السّجن أم خارجه، فالنّتيجة النّهائيّة المبتغاة واحدة. فيما كافّة الدّلالات تشير بأنّ هذه الأجهزة تفضّل استمرار معاناة الأسير وإطالة أمدها على أن يكون الموت خارج حدود السّجن.
إنّ جرائم الاحتلال لا تتوقّف عند هذا فحسب، بل تتعدّى كلّ توقّع، خصوصا حين يتذكّر الأسير المريض – في لحظاته الأخيرة – كلمات الطّبيب والسّجّان، تودّعه عند بوّابة الخروج من السّجن باستهزاء العارف: “أنت في طريقك إلى الموت!”
إنّها نفس الكلمات التي سمعها كلّ من:هايل أبو زيد وسيطان الولي وزهير لبادة وأشرف أبو ذريع وفايز زيدات وزكريا عيسى ومراد أبو ساكوت وحسن ترابي وفايز بدوي ومجدي حماد وجعفر عوض وغسّان الريماوي ونعيم الشوامرة وغيرهم المئات ممن توفّوا بعد تحرّرهم، متأثّرين بأمراض ورثوها عن السّجن والتعذيب ومضاعفات الإهمال الطّبي.
وهي نفس الكلمات التي قيلت، وسوف تقال، لكلّ أسير محرّر قبيل خروجه، لاسيّما أولئك الذين يظهر عليهم المرض قبل تحرّرهم.
إنّ كلّ هؤلاء الذين ذكرنا أسماءهم، وغيرهم، لا شكّ، تذكّروا هذه العبارة قبيل وفاتهم بلحظات. فأوجعتهم الكلمات ولم يوجعهم الموت، بل أوجع الأحياء من بعدهم، وأوجع زملائهم القابعين في السّجون والذين ينتظرون مصيرهم المجهول.
تمّ التحرير والتدقيق