الأسرى المرضىبالورقة والقلم

الأسير المريض بسّام السّايح

جلسة تحقيق بالكيمياوي (2 )

بقلم : عدنان حمارشة

 

كثيرا ما قرأنا في قصص التّحقيق التي كانت تمارس فيها وسائل وأنواع للتّعذيب معلومات لا تصدّق من شدّة هولها، بل إنّ مجرّد التّفكير فيها يجعل الإنسان يشعر بالقشعريرة وتنتابه آلام نفسية بل أحيانا يحسّ أنّه يتلقّى هو شخصيّا التّعذيب، واللّحظات التي استمعت فيها إلى بسّام السّايح “أبو أيّوب” عن التّحقيق الذي جرى معه لم أملك معها إلاّ أن أقف وأقبّل يده ورأسه، فقد تمّ اقتياد بسّام إلى التّحقيق إلى مركز “بيتح تكفا” وعند وصوله واجهه المحقّقون بالحقائق المؤلمة التي يملكونها:

“الحقيقة الأولى :زوجتك معتقلة عندنا “والتّلميح واضح”

والحقيقة الثّانية: أنت مصاب بالسّرطان وتحتاج الدّواء بشكل فوري ودون تأخير

الحقيقة الثّالثة: دورك في عمليّة ايتمار وتمويل خلايا إرهابيّة”

جلس بسّام أمام المحقّقين في منظر عجيب … محقّقون يملكون كلّ أساليب القوى المادّيّة، وأسير لا يملك سوى ضعف في كلّ شيء، حتّى جسده يشبه جسد طفل صغير، أو هو أقرب شبها إلى هيكل من هياكل المحاربين اليونانيّين في العصور الوسطى، معادلة غير عادلة، إلاّ أنّها كانت بالنّسبة إلى بسّام متوازية، بل إنّ المحقّق ظنّ أنّ بسّام انتابه نوع من الجنون عندما قال له في الجولة الأولى من التّحقيق:”أنا أشعر بالحرّيّة الآن أكثر من أيّ وقت مضى في حياتي، فلم أشعر يوما بمعيّة الله كما أشعر بها الآن، وأنا متأكّد أنّي سأنتصر عليكم لأن الله معي وأنتم ليس معكم أحد”.

اكفهرّ وجه المحقّق لحظتها لكنّه قال:” لا تكثر من الكلام خارج الموضوع، نحن نعرف كلّ شيء والحلقات التّنظيميّة كلّها مكشوفة لدينا، ونعرف من يعمل معك ونعرف عن العمليّات وعن التّخطيطات ونعرف دورك في كلّ شيء.”

أدرك بسّام أنّ معلوماتهم ضئيلة كالعادة، فأجاب: “ليس لديّ شيء أقوله وبالنّسبة إلى مراكز القوّة معكم، فأقول لكم بأنّ زوجتي لها الله ولا أملك لها شيئا، وأمّا أنّي مصاب بالسّرطان، فإنّ الابتلاء من الله بل هو طريق النّصر عليكم، وحقيقة أنّ لي دورا في عمليّة ايتمار كما تقولون فهذا شرف لا أستحقّه ولم أفعل أيّ شيء من هذه الأمور البطوليّة والتي يتمنّى أيّ فلسطيني أن يتشرّف بأن يكون مقاتلا ضدّ الظّلم والقهر الذي دأبتم على زرعه في حياتنا منذ أكثر من نصف قرن من الزّمان.

لذا اطمئنّوا، فليس لكم عليّ سبيل، وما اقترحه عليكم هو الإفراج عنّي قبل أن يكون لموتي دور جديد في ازدياد عمليّات المقاومة، فكما ترون فإن أفرجتم عنّي فأنا المنتصر، وإن متّ على أيديكم فإنّ دمي أيضا هو المنتصر، فهيّا ابدؤوا من أيّ مكان، ولن أكون مستغربا من أيّ شيء ستفعلونه معي”

سكت المحقّق طويلا وأمامه الحاسوب يكتب عليه حينا وعلى جوّاله حينا آخر … انتصف اللّيل وبدأت عظام بسّام تطلب المادّة الكيماويّة التي تبقيه على الحياة بإذن الله، وازداد ضغط دمه هبوطا فالخلايا السّرطانية فيه لا ترحم ولا تنتظر وقتا، ولا تعطي فرصا أخرى.

لم يُظهر بسّام الألم، لكنّ المحقّق يعرف مسبقا ماذا يحدث الآن في جسده، وفعل الخلايا السرطانية في العظم والدم، أصبحت الرّؤيا مشوّشة، لم يعد يرى بشكل سليم .. كلّ الأشياء حوله كأنّها غبار في صحراء تمتدّ إلى ما لا نهاية ويداه ترتجفان والقيود الفولاذيّة فيهما أصبحت كأنّها أثقل من جبل على سطح الماء، الجفاف غزا شفتيه،

 

شعر أنّ لسانه يلتصق بسقف الحلق، يحتاج إلى شربة ماء، والمحقّق لا ينظر إليه وكأنّه لا يشعر بوجوده، لكن بسّام يعلم يقينا أنّه يعذّب هكذا لابتزاز المعلومات منه، لكن حتى الآن تظهر على وجهه علامات المقاومة، فعيناه تلمعان من خلف جفون أصبح سوادها يزداد، وحاجباه تقطّبا كأنّهما يخفيان خلفها آمالا عريضة لتحقيق النّصر.

مضى الوقت، وكأنّ كلّ دقيقة منه بعمر جبال، وبدأ بسّام يختنق .. دمه وعظامه يناديان في واد عميق، لا يسمع صراخهما غيره .. بدأت المعلومات تتداخل في دماغه، أفكاره تشوّشت، يبتسم حينا إذ يظنّ أنّ زوجته تدخل عليه مبتسمة، ويبكي حينا وهو يظنّ نفسه طفلا صغيرا يحاول الوحش افتراسه، يغمض عينيه إذ يظنّ أنّه عائد من العمل وهو مرهق وهذا وقت نومه…

كلّ الأشياء تداخلت حتّى يبدو لمن يرى بسّام أنّه شبح لإنسان، وفي لحظة صرخ بسّام صرخة مدوّية، وقع على إثرها على الأرض .. وبسرعة عجيبة فُتح الباب ودخل أسطول من المحقّقين ومعهم طبيب وممرّض وحقيبة معدّات طبّيّة، انزوى المحقّقون جانبا يتحدّثون عمّا يجب فعله في المرحلة القادمة بعد أن يصحو بسّام من إغماءاته وقد يعتقد البعض أنّ هؤلاء قد تحجّرت قلوبهم، ولكن الحقيقة أنّهم بلا قلوب أصلا، أمّا الطّبيب فهو يدرك حالة بسّام وقد قرأ ملفّه الطّبي كاملا ويعرف المضاعفات التي تحصل معه الآن، لذا فقد جهّز إبرة تحتوي على منشّطات قويّة ومسكّنات معيّنة..

وبعد نصف ساعة بدأ بسّام يصحو، ولكنّ الآلام لم تغادره نهائيّا، ويبدو أنّ حسابات الطّبيب ليست في مكانها ففحص مرّة أخرى الضّغط ونبض القلب، والتّنفّس والرّئتين ووو….

ثم همس للمحقّق المسؤول: إذا تابعتم معه الآن قد يموت، يجب أن يأخذ جرعات الكيماوي الآن.
جلس الضّابط في زاوية الغرفة واتّصل هاتفيّا فسمعه الآخرون يقول: الطّبيب ينصح بوقف التّحقيق معه، ثمّ سكت، لكن ملامح وجهه تقول أنّ هناك على النّاحية الأخرى من يصرخ عليه.. فقد احمرّ وجهه وتصبّب العرق من جبينه. ثم قال بعد أن أصغى طويلا : حسنا سيّدي، سنواصل، ثم عاد إلى الطّبيب وقال: هيّا، أعطه أيّ شيء نريده فقط عدّة ساعات، فهذا الرّجل يهدّد أمن الدّولة، وقد تكون الأسرار التي يحملها في عقله أكثر بكثير ممّا نتوقّع، امتثل الطّبيب لأوامر المحقّق، وبالفعل أخرج من الحقيبة عدّة عبوات وأخذ من كلّ واحدة منها القليل ثم أفرغها في ذراع بسّام، وخلال دقائق صحا بسّام ولكنّ آلامه تضاعفت، وفي نفس الوقت لم يفقد الوعي، صرخ بسّام بأعلى صوته، لم تعد لديه قدرة على المقاومة ..

وأكملوا معه التّحقيق، وبالفعل كانت جلسة تحقيق بالكيمياوي .. ومع أذان الفجر في نابلس أرض الماء وجبل النّار، كان بسّام يصلّي على كرسيّه مقيّدا وهو ما بين الموت …والموت.


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى