بقلم: قتيبة قاسم
كحال أيّ أسير بدأت منذ شهر قبيل يوم الإفراج بترتيب أوضاعي التي لا تحتاج إلى كثير من العناء، إلاّ أنّنا اعتدنا عند كل إفراج أن ننتقي أجمل الملابس وأظرفها ” للشّحرور”، حتى نخرج بأبهى حلّة من خلف تلك الأسلاك التي لم تقهر فينا ومضة الجمال والأمل، وعلى غير ما اعتاد عليه كثيرون من الأحبّة، فإنّهم يجهدون لإدخال الملابس أثناء الزّيارات والتي يُسمح بإدخالها 4 مرّات فقط طوال العام بمعدّل مرّة واحدة كلّ ثلاثة أشهر تكون الزّيارة فيها مخصّصة لإدخال الملابس ولربّما تُحرم من هذه الفرصة أيضا.. وكنت لا أزال عند موقفي القديم الجديد المتمثّل بأن أدخل الملابس وأبقيها لمن سيبقى خلفنا هناك ينتظر الفرج فإدخال الملابس إلى السّجن أشبه بالمعجزة وهي من المستحيل بمكان، أمّا نحن ومِن على عتبات الإفراج فإنّنا منطلقون إلى العالم الحيّ هناك خارج هذه القبور المظلمة وهناك بإمكاننا أن نحيا حياة لا قيد فيها حيث لا قيمة للبنطلون ولا للبلوزة ولا لكمّ الطلبات التي تقدّمها إلى الإدارة للموافقة على طلب إدخال الملابس ولا للخضوع إلى الشّروط المعقّدة لإدخال ذلك النّوع أو اللّون من عدمه، فآليت أن لا أخرج إلاّ ببعض الملابس التي أهداني إيّاها أخ حبيب، وبين مدّ وجزر، انهالت العروض السّخيّة من هنا وهناك، هذا يعطيني ملابسه التي أدخلتها له والدته للشّحرور وكذا فعل كثيرون وأنا لا زلت أردّد على مسامعهم أنّني سأخرج بالملابس التي أراها مناسبة مما كان بحوزتي ومما احتفظت به خلال العامين المنصرمين.
أطرق أحدهم في الغرفة المجاورة قريباً من الشباك ، ورأى الغرفة كأنها معرض للملبوسات ، بنطال هنا وبلوزة هناك ، أقبل ليسألني فأجبته أنني أرى هذه البلوزة تناسب هذا البنطال ، حينها أومأ برأسه وقال إنها جيدة ، أليست هذه التي أهداك إياها ” أبا حذيفة ” ، نعم هي ، أوَ تدري لمن كانت هذه ، لا ، أجبته وقلت في نفسي ولتكن لمن تكون ، ليس بالأمر العجيب المهم أنها مناسبة ، قال : هذه لأبي البراء ، زميلك الصحفي !!
نعم ، قلتها في نفسي ، لقد زاد هذا الأمر في قناعتي ، وقررت الخروج بتلك الملابس التي أنهك السجن أصحابها وأوغل في عذابهم ، ولعلّي أنقل للعالم عن أولئك الذين ما بخلوا على أرضهم وشعبهم وأمتهم بسنيّ أعمارهم هناك ، لا تدري أموات هم أم أحياء ،، في مقابر الموت والاضطهاد ..
كانت تلك “بلوزة” الأسير محمود عيسى أبو البراء، وكان إذا ما جال في خاطري الأسرى أو مرّت ذكراهم فلا بدّ من أن تنتظم الحروف ابتهاجا ولوعةً وانصياعا لتطبع قبلة على جبين أولئك الذين تمترسوا بأوجاعهم وآلامهم خلف منصّات التّضحية والفداء، ترتبط معاني الرّجولة بهم أيّما ارتباط، لا ينفكّ عزمهم يُعطي بريق الأمل لمن تربى في مدارس فلسطين وميادينها ينتظر الفرج.
لعل البلوزة التي آليت أن لا أخرج إلاّ بها إلى فضاء الحرّيّة وأن أحتفظ بها فيما قد يراه البعض شيئاً بلا معنى، غير أنّ المعاني تتجلّى في استحضار قيمة أكبر من تلك المادّيّة إلى أبعد منها بكثير، إنّها تعني الكثير الكثير فهي وإن كانت نسيجا من الصّوف والقطن العادي فإن صاحبها لم يكن يوما عاديا، فأبو البراء المعتقل منذ العام 1993 ليدخل عامه الرّابع والعشرين خلف القضبان، ملحمة من الصمود والصّبر والعطاء، تستحقّ الوقوف عندها، تستحقّ أن تُقدّم لأجيال الأمّة التي تضيع بين ثقافات وأفكار دخيلة، أبو البراء والذي أمضى أكثر من نصف فترة اعتقاله معزولاً عن الأسرى وعن العالم بأسره، يستحقّ منا وقفةً لأن ندخل إلى مكنونات هذه الرّوح التي توثّق رحلة جهادية عميقة عظيمة يتغلغل الصّبر فيها ماءً يروي الظّمآن، غيثا منهمرا من رباطة الجأش والعزيمة، يُعزل وحيدا مرّة وثانية وثالثة، يعود للتّحقيق من جديد تًضاف إليه أحكام جديدة فوق المؤبد لثلاث مرّات، وثلاثة عشر عاما “معزولاً” وحيدا إلا من مناجاته وخلواته مع خالقه ، برفقة المصحف والقلم ، الأسير الصحفي ومدير مكتب صحيفة صوت الحق والحرية ، صدح بالحق حراً لا تكبله القيود ولا تحدّ من عزمه العوائق والسدود ويصدح بالحق مكبّلاً بأغلال الحديد ، يرافقه القلم في زنزانته المظلمة تحت الأرض ، يكتب عن الحرية وعن المقاومة وعن السياسة ، يكتب تأمّلاته في القرآن، ويقصّ علينا حكايته تلك التي برع في نسجها دونما حبكة أو مغالاة ، فكانت حكاية صابر، ويهدينا أطيافا من الوفاء .. ومن الوفاء لأبي البراء أن يظل حاضرا، أما البلوزة فكانت هي الأخرى شارة العبور لقصة رجل ، لن تعطيه هذه السطور ولو جزءاً يسيراً من حقه علينا كفلسطينيين وصحفيين وإعلاميين ومواطنين وحتى كأسرى محررين ، فأسرانا يا قوم ليسوا أرقاماً تعجّ بها إحصائياتنا ومقالاتنا ، لكل منهم حكاية وقصة وفكرة ، لن تجدها في سواهم ، فابحثوا يا رعاكم الله عن تلك الحكايا واقرأوا بين سطورها ما لا تقرؤونه في مكان أو زمان آخر ….
محمود عيسى ، لك الوفاء ولصحبك الكرام ,, و ” شحروركم ” قريب قريب بإذن الله