بقلم: مروان أبو فارة
تعتبر قضيّة الأسرى من الأهميّة بمكان بحيث لا يجرؤ أحد من العاملين للقضيّة الفلسطينيّة أن يصوغ خطابه للجماهير دون أن يعرج عليه أو يجعله هدفا من أهدافه الوطنية وشعاراته الرنانة ذلك ان الاسرى في الحالة المثالية للقضية الفلسطينية يعتبرون واحدا من الثوابت التي لا يختلف عليها اثنان ولا يمكن أن يقلل من قيمة هذا الثابت إلا من كان لديه امر اخر يستطيع ان يناور به كالمال السياسي والحكم الشمولي.
غير أنّه وكما هو معلوم في الحياة الواقعيّة فإنّ التّنظير المثالي منقطع النّسب عن الواقع بصورة أو بأخرى والحديث هنا عن التّعامل مع شريحة الأسرى قبل وبعد تحرّرهم. إنّ الأسرى يعانون نوعا من التّهميش المتعمّد نوعا ما حيث يمكن القياس وبصورة واضحة على حالة الأسير المضرب عن الطّعام بعد إنهائه إضرابه فكما ورد في طبائع الاستبداد قبل قرن ونيف فإنّ ثوراتنا وتحرّكاتنا الثّوريّة واحتجاجاتنا غالبا ما تكون ناقصة ونكون نحن في التّعامل معها تماما كراكبي الأمواج تعنيهم الموجة حين علوّها وذروتها ولا يعنيهم أين مآلها في آخر الأمر فالأسير المضرب عن الطعام بعد أن ينهي إضرابه ينال التّهنئة ليوم أو يومين ثم يطويه الثّقب الأسود الخاصّ بالنّسيان عند هذا الشّعب فلا تسمع به بعدها إلاّ إذا تحرّك هو بعد تحرّره واستغلّ الحملة عنه أثناء إضرابه وجعل ذلك منصّة للتّحرّك والتّأثير حسب رأيه الشّخصي وإن كان ممّن لا عدّة لهم من القدرة على الحديث ولا تتاح لهم المنابر الإعلاميّة فإنّه يبقى في صحراء النّسيان كما كان قبلا.
وربّما يظنّ البعض أنّ الكلام فيه مبالغة غير أنّنا في عصر لا تخفى فيه خافية، ومن يتجشّم عناء البحث عن قضيّة الأسرى سيجد أنّ الأسرى الواقعين تحت مجهر التّركيز إمّا أن يكونوا مرضى مدنفين تعمل المباضع الصّهيونية فيهم تجارب وأخطاء أو آخرين بلغوا من الأسر عتيّا وتطلق عليهم ألقاب العمداء وغيره من الألقاب التّرطيبيّة أو أطفال في أقسام تجارب مطلقة ويتمّ اختيار هذا المزيج لصياغة مظلوميّة ما وصورة تتبعها صورة واسم يتبعه اسم دون أن ترى حلّا في الأفق.
وإذا خرج هذا الأسير إلى ربوع الحرّيّة فلا بدّ له أن يتسلّح بكمّيّة لا بأس بها من الأوراق الثّبوتيّة والتّواقيع المتعدّدة والمراجعات المتلاحقة ويكفيك أن تعلم أنّ الأسير المحرّر الذي أمضى في سجنه خمس سنوات فما فوق يكون بحاجة إلى أداء تعهّد عدلي أنّه ليس لديه دخل آخر غير الدّخل الذي يناله من هيئة الأسرى والمحرّرين وأنّه إن كان فلا يجوز أن يتعدّى ألفي شيكل أي ما يقارب ثلاثمائة دولار أمريكي وإن كان وتعدّت فأن يقع في حيص بيص ومساءلات تطول ولا تنتهي وعن هذا التّعامل لا بدّ من حديث حيث هناك طائفتان من الأسرى المحرّرين أولئك التّابعين للفصائل المنضوية تحت لواء منظّمة التّحرير حيث يعاملون معاملة تختلف عن أؤلئك القادمين من المرّيخ أو الزّهرة غير المنضوين تحت لواء المنظّمة فمثلا في بلد ما كان معظم الأسرى المحرّرين من المرّيخ والزّهرة وأمضوا أعواما مديدة من أعمارهم في السّجون وكان هناك أسرى آخرون أمضوا شهورا معدودة وعندما قرّر المتنفّذون أن يكرموا الأسرى المحرّرين استدعوا أصحاب الأشهر القلية وكرّموهم على أنّهم طلائع المدّ الثّوري الجارف القادم واستثنوا الآخرين مع أنّهم كثر غير أنّهم غير مختومين بطابع الانضواء تحت مظلّة منظّمة التّحرير. وإن كنّا قد تحدّثنا عن نوع واحد من التّمييز فلا بدّ من الحديث عن ملفّ آخر شديد الحساسيّة ولا يمكن المرور عنه مرور الكرام حيث أنّه وبعد أحداث الانقلاب على الحكومة في غزّة من قبل الخاسرين في الانتخابات صار الأسرى المحرّرون من غير أبناء المنظّمة هدفا مشروعا وصاروا يعانون من سياسة الباب الدّوّار ما إن يخرجوا من سجون المحتلّ حتّى يتمّ استدعاؤهم للسّؤال والتّحقيق وربّما السّجن عند أبناء جلدتهم وتكون الأسئلة عن أمور كان الأسير المحرّر قد حوكم عليها في سجون المحتلّ، والتّجارب مريرة والتّفصيل مؤذ.
وهذه الحالة تشكّل التّطبيق الحقيقي للانفصام الذي يعاني منه المنظّرون والمحلّلون لمثل هذه التصرّفات حيث يكون الاسير عندهم مقدّسا عندما يكون في سجون المحتلّ ثم ينقلب إلى هباء إذا سُجن في سجون بلده ويا لها من مفارقة عجيبة تتحدّث عن عمق الهوّة بين أسير وآخر نتيجة لحسابات سياسيّة معقّدة.
ثمّ إنّ هناك ما يسمّى المنع من راتب الأسير المحرّر لأنهّ معارض للشّرعيّة حيث تمثّل هذه المحطّة التّجسيد الفعلي لحياة الإقصاء والإلغاء التي يحياها الأسير المحرّر، فكما تعلم لا أحد يرغب في أن يعمل لديه أو يتولّى أعماله رجل يتكرّر اعتقاله وتكثر الاستدعاءات له من كلّ الجوانب ممّا يضطرّ الأسير المحرّر من غير أبناء المنظمة أن يجد عملا خاصّا يسدّ به الرّمق ويسعى إلى تحسين ظروفه المعيشيّة بالإضافة إلى راتبه كأسير محرّر وإلاّ فإنّه يعيش البطالة المقنّعة بحذافيرها. وهناك حالات مشهورة إعلاميا يمكن متابعتها لمعرفة حقيقة الواقع المرير الذي يحياه الأسير المحرّر وإن كانت الشّعارات الرّنّانة والمنشورات الفيسبوكيّة تقول عكس ذلك غير أنّ الخبر ليس كالمعاينة وتماما كما قيل لا معنى أنّ قلوبكم معنا إن كان الكلام هو بضاعتكم وسلاحكم.
وهنا نصل إلى التّعامل في الحياة اليوميّة مع بعض الأسرى المحرّرين حيث تجد أنّ هناك من يخاف التّعامل معه خوفا على لقمة العيش من كفّ المحتلّ الصّهيوني ورفاهيّة العيش الزّائف أو من يهاب المحاسبة والمراقبة من قبل أبناء الجلدة وشركاء الوطن السّليب، فتجد من يسلّم عليك بحذر، ومن يحدّثك همسا حتّى تظنّ في نفسك الظّنون كأنك تحمل الطاعون أو الجذام، وهذا ينسحب للأسف على كثير من أبناء الشّعب في هذه المرحلة المصلحيّة المطلقة حيث لا يمكنك أن تفسّر هذا التّصرّف العجيب إلاّ على أنّه نوع من الخور والخوف المبطن والمغلف بالذّكاء لخداع الضمير. فكم قيل عن الأسرى أنّهم مجانين وأنّهم يزرعون ليحصد غيرهم من المنتفعين وكأنّ القضية محصورة في بيوت محدّدة والفائدة لجيوب وأشخاص آخرين قادمين من غير مكان وعلاقتهم بالوطن وثوابته وشعبه علاقة نفعيّة بحتة، لا تبادليّة فيها حيث يعتبر الوطن والشّعب مصدر دخل لا غير، ولتمت بعدها الوطنيّة، ولتمت القضايا والثّوابت، وكم من مجهول النّسب الوطني صارت له صولة وجولة لأنّه يملك لسانا متملقا وعنقا مطأطأ ويريد للباقي بما فيهم الأسرى أن يخلدوا للشّعارات الزّائفة ويستكينوا لأوامره ولفصيله، كأنّنا في زمن عبوديّة مطلقة إمّا أن تكون عبدا منعما والقيد في رقبته مع القطيع أو تكون حرّا مطرودا مطاردا محروما من كلّ شيء حتّى من الميتة التي تقارب ميتة الأنعام…
لا يعني الكلام السّابق أنّ المطلوب هو التّظلّم أو رفع شكاية لأن أسيرا منّا وهو سيّد من ساداتنا قال لسجّانه يوما إنّنا نحارب من أجل قضيّة فضلى وقيم عليا ولسنا في السّجون من أجل سرقة ماعز أو تعدّ على مظلوم منتهك الحقّ حتّى في الهواء، ولكنّه توصيف مقتضب لحالة لا بدّ من الحديث عنها ليعلم النّاس أنّ الأمور مختلفة جدّا عن التّنظير والاستغلال لقضيّة الأسرى سواء كانوا في سجون المحتلّ أو في ربوع الحرّيّة الجزئيّة المحدودة، وأنّ الأسرى وإن كانت قضيّتهم من الثّوابت فإنّهم يعانون الأمرّين في محاولة العيش ولو على هامش الحياة لا رغبة في الحياة وحبّا لها وإنّما مراعاة لقلوب تعلّقت بهم وأجساد أضناها التّنقّل من باب سجن إلى آخر حتّى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فالأمر كلّه يدور على إثبات الفرق بين مركزيّة قضيّة الأسرى في الشّعارات والاحتفالات والمؤتمرات وهامشيّة حال الأسرى وقضيّتهم في الحياة اليوميّة لشعب مفروض عليه الذّاكرة القصيرة وموسميّة التّعاطف.