الأسرى المرضىبالورقة والقلم

الأسير المريض بسّام السّايح

الحلقة "3"

بقلم: عدنان حمارشة

 

كان الجوّ في الخارج غائما… ويبدو أنّ  نسمة هواء باردة قد تخلّلت ملابس بسّام فلامست جلده الرقيق ممّا جعل هذا الجسد النحيل  يتكوم بطريقة لفتت انتباهي لتلك الفتحة الصغيرة وسط الباب الفولاذي التي كانت السبب في ارتجاف بسام… ناديت أحد المجاهدين وطلبت منه أن يحاول إغلاق الفتحة.

في هذه الأثناء كان بسام يتعرف على المجاهدين الذين لم يسبق له أن رآهم فيبتسم ويضحك وصوته حادّ بشكل مميز حتى أني اقتربت من شيخنا جمال الطويل الذي تعوّد الجلوس بالقرب مني ، بدماثة أخلاقه المعروفة وابتسامته الهادئة ، وقلت له هامسا: ” يبدو أنّ بسام لم يعد مريضا”

فردّ عليّ قائلا وابتسامة  خفيفة تعلو وجهه الذي تبدو عليه السنوات الطويلة التي قضاها في السجن: “الحمد لله، هكذا يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب، وحتى لو كان مريضا فإن الله قد جدّد له حياته وزرع الأمل في نفسه كما ترى. ”  ولم أرد أن أقاطعه ، فحين يتكلّم هذا الرجل أشعر بسكينة في نفسي وفجأة، سكت الشيخ هنيهة ثم قال: “طيّب خلينا نحكي مع بسام”.

 

ابتسمت وقلت له: “حسنا يا شيخي عادتك ولن تغيرها، تحب السكوت وتفضله على الكلام”… ابتسم مرة أخرى ثم أمسك بيدي وشدّ عليها… ولم يكن بحاجة إلى أن يقول لي شيئا فقد فهمت كل شيء…   إذ يستحي الشيخ إذا أثنى عليه أحدهم…

انتبه بسام إلى حركة الشيخ . كما يبدو  أنه سمع حديثنا ،فالغرفة أصغر من الهمس…

فابتسم  وهو ينظر إليّ  وانسابت من فمه كلمات لا يقولها إلا من كان يحسّ حقا بمعية الله

“هادي باللهجة النابلسية (والتي تعني هذه يا سيدي) بركات الصالحين ورضى الله ورضى أبي وأمي ورضا أم أيوب (زوجته) “… والله ما كنت لحظتها أرى صالحا غيره…

ابتسم أبو عبد الله والشيخ جمال الطويل وقد كان يعرف كيف يحوّل  الجو إلى فرح وتفاؤل وأمل بالله، وقال: ” كل القصة يا أبو أيوب إنك بدك تقول إنها إم أيوب السبب بأنك استطعت التغلب على المرض”… أجاب بسام بسرعة وابتسامة تصاحب كلماته: “إحم إحم طبعا سيدي”.

وضجّت الغرفة بالضحك حتى أنّ من يسمع ويرى سكان هذه الغرفة  يعتقد أنّهم يسكنون قصرا تمتلئ أرجاؤه بالحرية وليس في غرفة تضيق مساحتها حتى أنّ الأنفاس فيها قد تضيق.

ها قد أعلن أحد الإخوة أنّ الطعام جاهز و تمّ وضع الأكل أمامنا. و منذ تلك اللحظة ، ظهر بسام آخر… بسام الذي أصابته كل أمراض الأرض.

بدأنا نتناول الطعام …كنت أراقب بسام الذي  تناول بيده قطعة خبز صغيرة لا تكفي لقمة لطفل صغير وبدأ يقطعها حتى أمسك بقطعة بحجم طرف الإبهام… غمسها بصحن فيه حمص ووضعها في فمه وبدأ يمضغها…

 

أنهينا الطعام وما زالت اللقمة في فم بسام يحاول ابتلاعها بصعوبة ثم تجشأ قليلا وقال “الحمد لله”…

قلت له : ” لكنك لم تأكل”…

ابتسم وردّ  قائلا:” أشعر أنّ معدتي قد امتلأت”… ثمّ شدّ يده على ساعده وقال ضاحكا: ” انظر، لقد أصبحت عضلاتي كبيرة “… ومدّ  يده في حركة تشبه حركة رافعي الأثقال وكأنّه يطلب أن أفحص عضلاته … وبالفعل ، مددت يدي ووضعتها على عضلة بسام ثمّ قلت مستغربا “يااااه … أين عضلاتك يا بسام؟ بل أين يدك! أين جلدك وعظمك يا بسام؟!”…

لم أجد شيئا، فقط طبقات متراكمة من الملابس فوق ما يشبه اليد وما هو بيد….

اختنقتُ حينها وأحسست أن عيوني ستخونني وستنهمر الدموع… فبسام الذي يبتسم يصارع الموت واختفت الابتسامة عن وجهي…

فأنا أستطيع أن أحمل ألمي لكن ليس ألم الأحياء أيضا.

 

يا إلهي… كم بكى قلبي لحظتها، أحسّ بسام، الذي تعود قراءة حركات الجسد وإيماءاته ،بما يحدث لي، وبسرعة مد يده إلى قلبي قائلا، وابتسامته تعلو وجنتيه:” أتذكر الأنشودة التي رددناها سويا منذ زمن؟…

لا يا أخيّ فلا تقلها قد خبا صوت النضال فصراعنا كر وفر والوغى دوما سجال”….

أي كر وفر هذا يا بسام؟ وأنا على كرسي وأنت… لا يوجد شيء في جسدك إلا وقد أصيب بشيء من مرض!

هكذا فكرت، فلم أعد لحظتها أفكر إلا ببسام وكيف سيموت في أي لحظة ولن أستطيع إنقاذه…

نعم ، لقد ضعفت أمام ضعف صديقي الذي استحال  طيفا في جسد … أردت أن أفعل أي شيء من أجله….

و بعد العشاء، حان موعد الدواء… تناول بسام كيسا صغيرا وفتحه فإذا بعشرات الأنواع من الأدوية تتناثر على السرير الذي يجلس عليه ثم بدأ  يشرح لي عن كل نوع قائلا: “بلاش نخربش بالأدوية مع بعضنا بنروح فيها “… قال ذلك و هوّ يضحك من أعماق قلبه….

والله أحيانا أجلس بيني وبين نفسي وأحاول أن أنسى الكثير من الظواهر في السجن، لكن لا أجد تفسيرا منطقيا ومنها قدرة بسام على الصمود، وليس أي صمود بل هو صمود حتى الموت … وشرع يشرح: ” بعد التحقيق حاولوا مرارا أن يعطوني جرعات الكيماوي كالعادة بالإبرة من خلال الشرايين لكنهم  اكتشفوا أنّ شراييني “نشفت” ولم يعد باستطاعة المحلول الكيماوي المرور من خلالها …وحتى الإبرة لم يستطيعوا إدخالها في أحد الشرايين لأن الشرايين قد ضمرت لدرجة كبيرة بحيث أنهم أوجدوا طريقة أخرى لإعطائي الجرعات، الطريقة هي عبارة عن حبوب عادية”….

أمسك بأحد أنواع  الحبوب التي تملأ السرير وقال:” هذه حبوب الكيماوي “…ولأوّل مرة أعلم  أن العلاج الكيماوي يمكن أن يأخذ شكل الحبوب بحيث يكون في شكل حبة صغيرة تشبه الأكمول يميل  لونها إلى الزهري الغامق …لم أظن للحظة ما قد يحدث بعد أن يتناول الحبة… تناول الحبّة ثم وضع الأدوية جانبا وبدأت سهرتنا ثم طلب منا أمير الغرفة أن نعطي بسام الفرصة لينام بسبب التعب . وبالفعل، خلال أقل من نصف ساعة توجه كل شخص إلى سريره الحديدي الذي يملؤه الصدأ…

كان الشرطي ينسلّ من باب غرفتنا كالإبرة في الماء بلا صوت رغم أنّ ظلّه قد انعكس على  أرضية الغرفة عندما مرّ أمام الكشاف … ثم بدأ صوت المطر المتساقط على العشب أخضر كأنه عروس مخملية الجسد على أرض القصر يسمع في الخارج …. أما هنا، في المعتقل، فقد كانت حبات المطر تحارب طبقات من الحديد والفولاذ الذي يتربع سماء الساحة وصوته لم يعد يشبه صوت المطر بل كأنه فارس مدجج بالحديد من القرن السادس عشر يقاتل العنقاء لعله ينتصر…

هكذا كانت حبات المطر تنزل على أرض الساحة التي نراها من خلال الفتحة الصغيرة في الباب، كانت تنزل منهمكة من اثر القتال في سماء الساحة فكأنها لم تعد تشبه المطر، فتنساب على الأرض وتتجمع كأنها دموع عجوز ريفية تبكي أغنامها التي ماتت بسبب غزو لم تكن تظن أنه سيحدث هذا العام.

ولا شيء يحدث صوتا في الغرفة سوى هذه الحبيبات  من المطر وبين الحين والآخر سعال شاب ينام فوقي يتملكه زكام منذ يومين ولم تنفعه حبة الأكامول الذي يعطيها إياه الممرض الذي يمر يوميا على مئة وعشرين أسيرا خلال بضع دقائق بائسة ….فهو لا يعرف من الطب سوى ما يمكن لعجوز تسعيني أن يعرف عن طائر الفينيق…

 

مرّ الوقت ببطء، فهذا القادم الجديد يحمل رائحة المستشفى تتخلل ملابسه وحبات الدواء التي رأيناه يبتلع إحداها مخيفة جدا، فليس من السهل أن ترى أحدا يأخذ حبة تعرف أنها مادة كيماوية تؤخذ لعلاج السرطان…

وهكذا، فقد تبلد إحساس الأسرى في الغرفة والتفّت الأجساد بأغطية قاتمة اللون، كأنها تنذرك بالموت كلما لمست جسدك ولم يعد يظهر من أجسادهم سوى تلك العيون البراقة التي لم تنم وكأنها تنتظر شيئا هذه الليلة….

كأنّ الإحساس الذي تبلّد يعلم يقينا ما سيحدث، فتبلّد قبل أن تغرق الدموع قلوبا عادة ما تكون أصلب من الفولاذ… أمّا الآن فما ينفع الفولاذ إذا ملأت الآه أقطار السماوات والأرض….

 

حتى اللحظة، كان بسام ينام كطفل صغير رضع من صدر أمه الدافئ ثم نام شبعانا، آمنا بحضن أمه… لكن، هيهات أن تسمح حبة الدواء لبسام أن ينام هانئا حتى الصباح….

كنت قد بدأت أشعر بالطمأنينة، إذ مرّت ساعة من الهدوء ولم يحدث شيء غريب وبسام ينام أمامي والضوء الضعيف الذي يمر من فتحة الباب يظهر جزء من وجهه الذي يبدو عليه الاسترخاء بل والسعادة أيضا … كأنه يبتسم…

استرخت عضلاتي وغالبني النعاس فأغمضت عيني واستسلمت لنوم عميق بعد أن أرهقتني أعصابي المشدودة خلال الساعة الأخيرة…

مضى الليل ولا أدري كم مضى منه عندما تنبهت حواسي إلى صوت تأوّهات أحدهم … صحوت وكأني لم أنم ونظرت حيث الصوت المخيف وكان صادرا عن بسام الذي كان يبدو كأنه يغطّ في نوم عميق… واستمر الصوت كأنّ أحدهم “يتغرغر” فيتردد  صوت نزول الماء في حلقه مع خروج الهواء من رئتيه، جلست في البرش ونظرت حولي فكان معظم الأسرى قد انتبهوا إلى الصوت.

لم ندرك  ما علينا فعله…. اكتفينا بالنظر إلى السرير حيث كانت الأصوات المتداخلة تخرج  من جوف هيكل عظمي تجمع عليه بعض اللحم وكساه جلد رقيق….

تحرك بسام قليلا وسعل سعلة تكاد تمزّق القلب حزنا.. وكأنّ السعال يأتي من باطن الأرض، هناك… من أعمق نقطة بعيدة  عن سمع الإنسان وبصره… ثم وضع يده على صدره وسعل مرة أخرى… وهذه المرة ، صدر عنه صوت مخيف … كأنّه صوت أحد العمالقة الذين عاشوا قبل ملايين السنين، صوت غليظ وعميق لا تصدق أنه قد يخرج من هذا الهيكل الهزيل…

اقترب أحدهم من بسام، لمسه بحنان … لكن ، ما إن لمست يد الشاب يد بسام حتى صرخ صرخة مدوية جعلت أصوات حبات المطر تختفي رغم أنّ السماء كانت تمطر بغزارة … وسكت نباح كلاب الحراسة التي تحيط بالسجن خلف السور الذي يرتفع حولنا أكثر من تسعة أمتار… حتى صوت خطوات الشرطي التي كانت قبل لحظة، قد اختفت فجأة…

 

و لم يبق سوى صوت الألم الذي اخترق حزام الأمان في قلب كل أسير في الغرفة… هذا الألم الذي  سرى في عروقنا جميعا … وكأنّ حبة الكيماوي التي تناولها بسام قبل النوم كانت متّصلة بشريان كلّ أسير في الغرفة… و كأنّ الدماء  قد توقّفت عن السير في مجراها … وكأنّ النهاية كانت هنا….

همس بسام قائلا: ” أبو عمر… إذا متّ  الآن سأكون قد انتصرت”… ولم أتبيّن الابتسامة على وجهه، فقد كانت الغرفة  مظلمة ، خالية من أي نور إلا من ذاك الشعاع الصغير الذي ما زال يخترق صمت الظلام بلا خجل ويقع على أرض الغرفة محاولا أن يكشف ألم بسام بكل صفاقة… لكنّني شعرت بتلك  الابتسامة من خلال العبارات التي نطق بها….

وساد صمت قاتل… وكأنّ شبح الموت أخذ يقترب منّا أكثر فأكثر…وكأنّ الأجساد الموجودة باتت تخاف أن تتنفس خشية  أن يكتشف الموت أنها ما زالت حية…

وتحوّل الصمت، بعد كلمات بسام ،إلى قشعريرة سرت في أجسادنا جميعا… بكيت وبكى الجميع ونسي أحدهم صرخة بسام وسببها فوضع يده على جبهة بسام وقبل أن ترمش العين وإذ بالصرخة تدوي مرة أخرى وهذه المرة كانت أشد وأقوى فقد كانت حبة الكيماوي التي يأخذها بسام يوميا أشد وطأة من حقنة الكيماوي التي يأخذها الشخص شهريا أو كل شهرين وهكذا كانت الحبة اليومية تفعل، وما زالت ،في جسد  بسام، ما تفعله السموم التي لا تترك إنشا واحدا إلا وتغزوه بتلك الآلام الرهيبة…

حاول بسام بيده المرتعشة الضعيفة أن يسحب اللّحاف فوق جسده … سألته:” بردان؟ “

فقال: ” نعم، إني أموت بردا”

أعطيت شابا يقف بالقرب من بسام غطاء إضافيا… وما إن وضعه على جسده  حتى عاد بسام إلى الصراخ مرة أخرى…

يا إلهي، لم أكن أدرك ما عليّ فعله ، و لم يسعني سوى البكاء… بكيت حتى الفجر، بكاء صاحبه  صراخ بسام حتى الفجر….

 

وهكذا يتتالى الليل والنهار و تتتالى آلام  بسام التي لا تنتهي … ويتواصل صراخه الذي يصم الآذان … صراخه الذي يتردد، ليس بين جدران الغرفة فقط ، كأنّه أسد جريح يخترق  زئيره أرجاء الغابة… وحتى يأتي طعم الحرية، ذاك السحر الحلال الذي يسكر بنشوته كل من حاصره ظلم السجان وقهر الزنزانة، سيبقى طعم حبة الكيماوي في فم بسام وستبقى صرخاته تردد:” لن أموت صامتا… بل سأموت مقاتلا”…

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى