بقلم: الدّكتورة كفاح ابو هنود
استيقظت هذا الصباح مرهقا..
فقد عدت بالأمس مشدوها من زيارة الأولاد.. وكأنّي ذقت وجع النّدى! ..
هزّني زميلي مرّات حتّى أنتبه لحديثه لكنّي كنت معرضا عنه فلا زلت مسافرا في ما وراء وجوه الصّغار ..
لقد ظللت بالأمس طوال الزّيارة أتحسّس أزرار قميصي إذ امتلكني الشّكّ أنّ الأزرار بلا عروة ! ..
ولمّا عدت شعرت أنّي بارد مثل قطعة النّسيان ! .. وحتّى اللّحظة لا أصدّق أنّ عشرة أعوام مضت على آخر قبلة لصغيري.. ولأنّ كلّ شيء قابل للكتابة حتّى الكآبة نهضت إلى الورق.. وبدأت برثاء خارطة أحلامي..
كتبت أنّي بالأمس تعثّرت في ثغر صغيرتي.. وتراءت لي أغنيات الأحلام القديمة في مفرداتها.. كانت تتحدّث بتعابير توحي لك أنّ الكلمات في فمها تهمّ بقصيدة وأنّ القصيدة تهمّ بها.. وأنا خلف القضبان أستجدي صوتها أن يخرجني من هامش الفقد إلى طرب الحضور بها.. كنت أقول لأمّها سأعلّمها عشر لغات وسأجعلها أغنية فلسطين..
حين لوّحت لي قائلة.. بابا أنت الحقيقة وكلّ ما حولك من الجند وهم.. هبطت مثل ظلّ حزين.. مثل وتر مقطوع.. مثل أغنية بلا صوت.. لا تسألني لماذا.. فأنت تعلم ما هو مدى الحريق في داخلك إذا انتصف اللّيل ولا أحد يشدّ يدك إلى حلمك..! كان أخوها يرتطم بالجدار كعادته منذ صغره لم يعرفني.. لا بأس فأنا ملء عمره الغضّ نسيانا..!
ظلت أمّه تشير إليّ وكنت مثل مهرّج أحاول استمالته كي يظلّ مشدودا إليّ .. وكلّما تماديت بالصّراخ إليه تشبّث بأمّه.. فجأة توقّفت وسرحت في الجنان الممدودة في عينيه.. أكان ذلك لونا أخضر.. أم لوزا وزيتونا أخضر.. كانت أمّي تخرج من قبرها وتربّت على قلبي فقد جفّ الكلام وتركت الحديث لبوح المقل!..
ترقبني أمّي وأنا أرنو إلى صغاري.. إلى وردة صغيرة بدأت تؤرّخ ميلادها برائحة العطر التي بدأت تفوح.. إلى غصن يحمل بذور الرّؤى.. إلى أمنياتي التي كنت أرصفها لهم.. وحدها أمّي من سمعت ارتطامي بينهم.. وحدها من سمع سيلان العمر في دمعي.. وحدها أمّي من رأتني عائدا وأنا أسحب روحي..!
حاول صديقي أن يغيّر مجرى الحديث لكنّي جلست مستنفرا وصرخت حتّى تكشّف جرحي .. قلت له.. ينبغي أن يكون هذا القمح في كفّي.. أخشى أنّه سيطحنه الرّحى!.. سيطحنه بعيدا عنّي.. في كلّ يوم كنت أعانق طيف أحلامي فيهم.. وألف مستقبلهم مثل درّ مكنون.. اليوم رأوني وأنا أدخل قلوبهم حافيا.. عاريا من الوعود.. يداي فارغتان.. وعلى شفتي كلمات مفقودة.. كنت أبا غير مكتمل.. مثل عرجون قديم.. وفي روحهم كنت مكبّلا..
قل لي من يحمي الصّغار إذ يسقطون في فجوة الغياب.. وماذا تفعل المسكينة بدوني.. ماذا تفعل؟.. كنت أنفجر مثل بالون احتقن بالكثير من الأسى والخيبة.. فجأة انتبهت إلى أنّ الجميع في المهجع يسمعني ولوهلة ظننت أنّ كل شيء صار مثقوبا فقد كان الدّمع في كلّ زوايا الغرفة وكان الجميع غارقا في الطّوفان.. غارقا في النحيب!..
ربّاه كيف ينجو من كان قلبه ممتلئا بالدّموع.. كيف ينجو من يرى نفسه ضمير الغائب في أيّام صغاره! … رأيت أحدهم يخرج صورة لأولاده .. كان يمرّر يده عليها برفق .. يستحثّها كي تردّ علينا .. تماما مثلما يفعل أولادنا وهم يحضنون آخر ما تبقّى منا .. يالفجاءة الألم.. و يا لالتفاتات الحنين ..
تنحنح أحد الأسرى ثمّ قال .. وهل الزوجة إلاّ وطن! .. وهل النّساء إلاّ أغنية فلسطين التي إذا حزنت ابتسمت ! … نحن هنا يا صديقي صوت الفكرة .. نحن هنا دليل التّاريخ كي لا يمسح الاحتلال أمسنا الأبيض عن فلسطين ويثبّت في التاريخ يومه الأسود .. نحن هنا ارتفاع السّنابل رغم المناجل … ونساؤنا هنّ سرّ فلسطين في نفض اليهود عن أرضنا ..
المرأة هي من توقظ الشّمس كلّ يوم وتفتح مهرجان النّصر .. يأكل الأسر يدها فترفع الرّاية بالأخرى.. تعلم الصّغار أنّ المجد على مرمى طلقة .. وأنّ الطّيور لا تموت من شدّة التّحليق بل يلتقطها الموت إذا هبطت إلى حبّ البسيطة ! …
نظر إليّ بقسوة قائلا .. كيف تفسّر لي صوت الزّغاريد في حناجر الأمّهات .. الحلوى المنثورة من الأكف الرّاجفة .. جبروت العفّة في أجساد الزّوجات .. تاريخك القديم الذي يظلّ في أرشيفها وفي نبض قلبها .. لا يسيل منك شيء … كأنّك حيّ في مذاقها ! ..تفوح في عقلها وتظلّ مسكونة بك .. تضبط عمرها على موعد خروجك … وتترجم ظلّك في ذاكرة الصّغار ! .. على خصرها معقود غيابك بلا ضجر .. وفي داخلها برد السّجن وكلّ أعوام المحكمة .. يا رجل هذه امرأة توضع الأحلام في حضنها .. هذه امرأة تختبئ خارطة الأحلام في سرّها..
قل لي .. كيف تفسّر ضجيج الأعياد في فلسطين بك .. كأنّك أنت القدس .. وكأنّك أنت الحلم المهيب لها ! .. في كلّ ليلة تتولّى نساء الأسرى إلى الظلّ إذا اشتعلت نيران الشّوق .. وفي نداء خفيّ .. يبعثن لله صوت الفراشات التي تصابر على فراغ المكان .. وفراغ الزّمان .. ولا ينكسرن .. وفي النّهار يرتقين على سلّم فلسطين مثل نغمة كلّما علت اشتدّ الإيقاع .. فلا تتعثّر أغنية فلسطين في أفواه صغارك يا سيّدي !