بقلم: مروان أبو فارة
في حقيقة الأمر فإنّي كنت قد عزمت على أن أجعل هذا الموضوع في نهاية السّلسلة حتّى لا أكون من أولئك الذين يختارون من المواضيع ما يجلب الشّهرة والتّباهي ولكن كوني قد خضت التّجربة بصورة جماعيّة قبل أعوام أربعة وكون أحد أبناء بلدتي يعاني الآن آلام الإضراب عن الطّعام لما يربو عن ثلاثة أشهر وهو الأسير أحمد أبو فارة وكون الموضوع صار بحاجة إلى تسليط ضوء تفصيلي بعيدا عن يوميّات الاستغاثة والاستجداء والآلام التي لا يشعر بها إلاّ المقرّبون من الأسير وتحديدا عائلته وبعض من زملائه في الأسر فقد حان الوقت للحديث بألم عن هذه المسألة.
يشكّل الإضراب عن الطّعام أحد الأسلحة الاستراتيجيّة الأخيرة والقليلة بيد الحركة الأسيرة وهناك تاريخ حافل بالإضرابات وملفّاتها التّفصيليّة لا يمكن التّعرّض لها هاهنا لأن الأمر ليس استعراضا تاريخيّا ولا سردا قصصيّا للأمر بل الحديث عن سلاح يشبه رصاصة الرّحمة التي ربّما يطلقها الأسرى على أنفسهم لينالوا ما يريدون أو يرفعوا عقوبات حلّت بهم أو يطالبون برؤية أهل غيّبهم المحتلّ بحجّة المنع الأمني أو لعدم وجود صلة قرابة بين الأسير وأمّه او أبيه أو أبنائه الذين من صلبه، وهذا ليس من الرّوايات ولا من خيال الشّعراء بل واقع مرير أليم يمكنك التّأكّد منه بالسّؤال فقط ولا أتمنّى لك تجربته واقعا.
والإضراب بصورة مختصرة هو الامتناع عن تناول الأطعمة والسّوائل عدا الماء لفترة زمنيّة وحسب قانون المحتلّ فأنت لا تعتبر مضربا عن الطّعام إلاّ إذا امتنعت عن تناول تسع وجبات فما فوق وهذا يعني بلغة الأيّام أنّ أوّل ثلاثة أيّام من الإضراب غير محسوبة قانونا عند المحتلّ ومن ثمّ إذا استمرّ إضرابك فإنّ قانون المحتلّ يقول أنّه ستعرض عليك المدعّمات الغذائية في اليوم الخامس عشر، وإذا بلغت اليوم الخامس والثّلاثين فإنّه يتوجّب على المحتلّ حسب قانونه أن ينقلك إلى المشفى ويتابعك متابعة حثيثة.
ويكون الإضراب في أيّامه الأولى صعبا بصورة متوسّطة إذا ما قيس بألم الأيّام التي تأتي مع التّقدّم فيه
والسّؤال الذي يتبادر بذهنك أيّها القارئ الكريم: ما الدّافع الذي يجعل الأسرى يضربون بصورة جماعيّة أو فرديّة؟
والجواب متعلّق أوّلا بمعرفة طبيعة المحتلّ وكيفيّة تصرّفه في القضايا الحياتيّة اليوميّة فلا عجب أن يكون ما يقارب ثلث القرآن يتحدّث عن القوم و”عكننة” صدورهم ومكرهم الذي يكاد يزيل الجبال فيعمد المحتلّ كلّ فترة إلى سحب الإنجازات التي حقّقتها الحركة الأسيرة خلال فترة الصّراع الممتدّة وذلك من باب التّضييق المتعمّد وعدم جعل الأسير في ضنك دائم، ولعلّ كلمة الإنجازات خدعتك بحروفها البرّاقة فظننت أنّ السّجون عبارة عن فنادق،
لذلك لا ضير ان أبيّن لك ما المقصود بالإنجازات في لغة الحركة الأسيرة، فمثلا كان التّلفاز ممنوعا البتّة وتمّ نيله بعد إضراب أسرى سجن نفحة الصّحراوي أوائل تسعينات القرن المنصرم وأمور أخرى منها جهاز المذياع الترانزستور وأمور تتعلّق بالطّعام كالخضار والفواكه واللّحوم التي تكون مسموحة بصورة محدّدة جدّا ولا يمكنك تجاوزها، وهناك أيضا زيارة الأهل والعلاج الطّبي وعزل بعض الأسرى في زنازين انفراديّة لأعوام بحجج واهية، وهناك أمور تصغر عند من لم يذق مرارة السّجن ولكنّها أمور مهمّة جدّا للأسير مثلا كإغلاق الباب على الأسير وعدم فتحه لفترات طويلة وقطع الكهرباء والمنع من الفورة “الفسحة ” لأيّام أو منحها بحدّها القانوني حسب المحتلّ ألا وهو ساعة يوميّا حسب رغبة ونفسيّة السّجّان القميء وأمور كثيرة أخرى تحسب من الإنجازات بدءا من المخيط وصولا إلى المطالبة برؤية والد أو والدة مدنفين قبل أن يواريهما المنون الثّرى.
فكلّما جاء مدير جديد لمصلحة السّجون الصّهيونيّة يبدآ كما الأنظمة العربيّة الشّموليّة بحملة عقوبات ورفع لتسهيلات مزعومة قام بها سلفه في المنصب، وهناك أمور أخرى تعدّ سببا للإضراب مثل الاعتقال الإداري التّعسّفي العفن وسنفرد له بإذن الله تعالى مقالا بعينه، وتطول الأسباب غير أنّ الحرّيّة والمطالبة بها والكرامة وصونها تبقيان عنوان كلّ إضراب.
هناك نوعان من الإضراب عن الطعام حسب تجربة الحركة الاسيرة الاضراب الجماعي والإضراب الفردي، ونتحدث اولا عن الاضراب الجماعي وهو اضراب لا يطول عادة، ويكون مطلبيا بصورة متدحرجة ككرة الثلج، والمقصود ان مطالب اول يوم ليست نفسها في اليوم العاشر، وهذه الاخيرة لا تقارن بمطالب اليوم العشرين فكلما ازداد عدد ايام الاضراب ازدادت المطالب تفصيلا وتصلبت الارادة واحتدمت المواجهة حتى تصبح المعركة معركة كسر عظم لا غير. وأخر اضراب جماعي كان اضراب الكرامة عام 2012 حيث كانت المطالب تتمثل في اخراج المعزولين من الزنازين الفردية والسماح لأهل غزة بزيارة ابنائهم والسماح للممنوعين امنيا من الضفة بزيارة ذويهم ومطالب حياتية تتعلق بالاكتظاظ في الغرف وملف الاهمال الطبي، وقد تحققت المطالب الاساسية الثلاث بصورة او اخرى غير ان الاضراب كان لفترة طويلة أي ما يقارب الشهر، وكان المضربون من فصائل ثلاثة فقط مما اطال المدة وأرهق الجمع المضرب وحقق انجازات اقل من المطموح اليه، وكان هناك من يحاول افشال الاضراب ولكن يكفيه ان عاد بخفي حنين وباء بالفشل في مساعيه،
فالإضراب الجماعي عادة ما تكون ايامه قليلة وحاسمة ويشكل فشل الاضراب الجماعي ضربة قاصمة للحركة الاسيرة ويعتبر مدخلا لتغوّل المحتل وفرض سياسات جديدة اشد تنكيلا من الأولى. .
والنوع الثاني من الاضراب هو الاضراب الفردي والمقصود به على الاغلب هو الحرية او تحديد سقف زمني للاعتقال الاداري لان المحتل جعل الاعتقال الاداري عصا العقاب على اللاتهمة إلا ظنونا وشبهات او مكائد. ونجح الاضراب الفردي في تسليط الضوء على مصيبة الاعتقال الاداري غير انه ترك اثرا سلبيا على الحركة الاسيرة،
وربما لن يروق هذا الحديث البعض غير ان هذا هو الواقع، فلقد رفع الاضراب الفردي السقف الزمني لأي اضراب بدءا من الاضراب الجماعي وانتهاء بالإضراب الفردي نفسه، والدليل ان اضراب الاسرى الاداريين عام 2014 استمر ما يفوق الشهرين وكان تعنت المحتل فيه طويلا وكثيرا، وأما الاضراب الفردي فالأسرى المضربون عن الطعام احمد أبو فارة وانس شديد يناهزون الثلاثة اشهر دون بادرة حل وتعنت بالغ من المحتل مما يشكل خطورة على الاسير تصل الى حد الاستشهاد او الخروج بعاهة مستديمة لا سمح الله.
وبالحديث عن الاضراب الفردي فلا بد من نكأ الجرح عميقا فانه وبالاستقراء ومتابعة الواقع يكون الاسير المضرب عن الطعام وحيدا طريدا مستهدفا، ولا يكتوي بنار المعاناة معه إلا امه وأبوه وزوجه وذووه وبعض المخلصين، اما باقي الشعب فتجمعهم اعتصامات خجولة لساعة او ساعتين على مضض ثم ينطلقون الى ملهاتهم الدنيوية، وكأن الاسير قد انتهت معاناته قبل رحيلهم ثم يغيرون صورهم الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعي لأيام قليلة ثم يعودون لصور المراهقة الفكرية والعاطفية، ويبقى الالم والمعاناة للأسير ودائرته المقربة في صراع مع الثواني واللحظات ومن ثم يدخل الاعلام فتجد اهل الاسير من محطة لأخرى يناشدون ويستغيثون والمجيبون كالأنظمة ما بين شجب واستنكار وتهديد وتوعد وتقارير تطول وتقصر وتعرض ساعة الذروة وتحذيرات المسؤولين تملأ الشاشات.
ولا ادري ماذا يفعل المقبل على الموت بالتحذيرات والتهديدات ان حصل له مكروه يعني يقول هذا المنطق الكسيح انه اذا مات الاسير فالويل لك يا محتل والثبور ولا يوجد من يقول فننقذ هذا وإخوانه ولنكف عن الوعيد والتهديد
ان المحتل في العام المنصرم عمد الى سياسة جديدة مفادها ان يصل الاسير المضرب عن الطعام الى حد معين يصاب فيه بعاهة ما مستديمة وبخلل وعطب يصعب التشافي منه ثم بعدها يعطي الاسير ما يريد ان اجلا او عاجلا، وهنا لا بد ان تعلم ان الجسد وبالتجربة لا ينسى مثل هكذا حرمان فيردّه اليك مرضا في قابل الايام .
إنّ الحركة الاسيرة قد ارهقتها الاضرابات الفردية والجماعية على حد السواء، ولكن يبقى الاضراب حيلة من لا حيلة له مع انه ارهاق للجسد وللنفس وللأهل إلا انه كما قلت سلاح اخير في يد اسير يتعاطف معه شعبه على خجل ويعصف المحتل بحقوقه وحريته دونما رحمة، وفوق ذلك يطالب الاسير بالوقوف مع اخوانه المضربين ان كان في الخارج وان يتضامن معه ان كان في ثنايا السجون، فيا له من شعب يقف معظمه متفرجا فيما يطالب الاسرى ان يكونوا متعددي المواقف والنضال والمواهب، فيا له من واقع مخز ومخيف
لم يبلغ المرء حده في الكتابة عن هذا الجرح العميق، ولكن ربما تكون هذه الصيحة والصرخة ليست كسابقاتها صيحة في واد او نفخة في رماد… والله اسأل ان ينصر كل اسير على سجانه وان يمنّ علينا بما ينهي ملف الاسرى بالكلية، وان يجمعنا بهم كما يكتبون على صورهم في ربوع الحرية في وطن محرر حر.
تم التحرير والتدقيق