
بقلم: ثامر سباعنه.
تستيقظ باكرًا فلا تجد في نفسك رغبة في النّهوض، ولكنّك تقنعها بمفارقة السّرير، تختار رُكنًا بعيدًا عن الآخرين، تحاول اللّحاق بكلمات تفرّ منك، تستسلم فتنشغل بنقل بصرك في الأرجاء، تتوهّم للحظات أنّك تجلس وسط حديقة منزلك محاطًا بأفراد أسرتك، تبتسم وتكاد تمدّ يدك لتداعب ابنك الصّغير، ولكنّك تنتبه إلى أنّك لم تره منذ سنوات ولا شكّ أنّه قد كبُر وتغيّرت ملامحه، تُفزعك تلك الحقيقة التي تناسيتها للحظات، حقيقة أنّك أسير تخنقك القيود والجدران العالية، وبصعوبة تبدأ ملامح رفاقك في المعتقل في التّشكّل فلا تجد بينها اختلافات كبيرة، الهمّ واحدٌ والجرح واحدٌ والألم واحدٌ.
ترفع بصرك عاليًا فترى السّماء بعيدةً جدًّا أبعد ممّا كنت تراها قبل سنوات، عندما لم يكن يفصلك عنها شَبَك حديديٌّ يعلوه صدأ الآهات المتصاعدة من نفوس قد أنهكها التّوق إلى الحرّيّة.
تضع أوراقك البيضاء أمامك، فيناشدك بياضها أن لا تكتب عن آلامهم حتّى لا ينزف لونًا أحمر، ولكنّك اعتدت الكتابة عن آلامهم وجراحهم، ولعلّ في الكتابة عنهم كتابة عنك فأنت تشاركهم القيد بكلّ قسوته وظلمه.
تُحدّث البياض أنّك عندما تُبحر في أحلامهم تعانق الحرّيّة، تلك المعشوقة التي توافقتم جميعًا على اختيارها أميرة أحلامكم بلا منازعٍ، أُمسك القلم باحثًا عن بداية أداعب بها صفحاتي البيضاء لكنّي أعجز عن إيجاد بداية جميلة تخلو من ألم، أقلّب نظري بين الأسرى وقد حمل كلّ منهم بسمة حزينة بهدف التّخفيف عن الآخرين، ولكنّ الحزن يظلّ يسكن القلب ولا يمكن أن نُظهر أيّ جزءٍ منه، فقد اعتدنا أنّ الحُزن انكسارٌ وأنّ الانكسار هزيمةٌ وأنّ الهزيمة عارٌ، لذلك مازلنا نحرص على كتمان آلامنا وأحزاننا حتى عن أقرب النّاس إلينا، هذا أسير يحنّ إلى والدته التي تركها مريضة وهو الآن يجهل ما حلّ بها ومن اعتنى بها وهل تحسّنت صحّتها وخفّ الجرح النّازف في صدرها منذ اعتقاله؟.
وذلك أسير يشتاق إلى أطفاله الذين اعتاد تقبيلهم وملاطفتهم كلّ صباح، وذاك أسير يذكر زوجته بشوق بعد أن تركها حاملًا وقد مرّ أكثر من شهر على موعد الولادة وهو يجهل كلّ ما يتعلّق بوضعها ووضع الرّضيع الذي أطلّ إلى عالم يُؤسر فيه والده لأنّه يحبّ الحياة؟.
وغير بعيد عنهم أسيرٌ آخر يتحامل على المرض الذي نخر جسده ولكنّه مازال يكابر ويصرّ على السّير في ساحة السّجن ذهابًا وإيّابًا، يشارك الآخرين حديثهم لعلّه يخفّف من أوجاعه، وفي ركن معزول يرسم آخر لوحات الحبّ والغزل يرسلها إلى خطيبته التي حرمته الأغلال منها.
أنقل بصري بينهم فأجد في وجه كلّ واحد منهم قصّة مختلفة ولكنّهم يتقاسمون الأمل والحلم بالحرّيّة. فقصّة كلّ واحد منهم قصّة الجميع.
هنا يتساوى كلّ الأسرى وتمّحي كل الاختلافات، فالكلّ هنا عائلةٌ واحدةٌ يتشارك أفرادها الماء والغذاء والقيد كما يتشاركون الأماني والأحلام.
قبل أيّام بلغنا أنّ أحد الإخوة الأسرى قد أصيب بالسّرطان، خيّم الحزن على الجميع، بل إنّ الكثير منهم قد ذرف الدّموع، كتمنا عنه ما ألمّ بنا ولكنّه أدرك ما في نفوسنا فابتسم وأخبرنا أنّه قد أوكل أمره إلى الله وأنّه ليس علينا إلاّ أن نتمسّك بالأمل ولعلّ في مرضه ذاك حرّيّة.
الحرّيّة، كم هي غالية ولا يشعر بقيمتها إلاّ من فقدها، ولا يدرك أهميّتها إلاّ من حُـرم منها، فلا قيمة لحياتك بلا حُرّيّة، ولن تتذوّق طعم الرّاحة إلاّ في ظلالها، وإنّ الحرّيّة والأمل لمتلازمان لا يحيا أحدهما من دون الأخر لذلك ها إنّي قد سخّرتُ قلمي لأرسم الأمل والحرّيّة كما يراها الأسرى الأحرار.