بقلم : د. كفاح أبو هنود
الأسر فكرة فلسفتها الغياب .. الأسر هو وجه الرّحيل !
هو الحزن الأخير لأمّ تمتلك من جسد ابنها صورة في إطار ويغدو الإطار تابوتا من خشب !
هو جفاف الذكريات المطيرة في غابة فقدت مواسمها !
هو اتكاء امرأة على مقبرة كان الموت فيها جماعيّا .. فالأسر وليمة تنبت الفقد فيمن تبقى !
قال لي .. لذا يضبط الأسير عمره على مواعيد الغيم .. على ألق النجوم .. وعلى صوت العصافير الهاربة ..
يقترب الجندي إلى أمنية أسير .. إلى مقبض الباب .. يختنق أحدهم في زاوية الحسرة ففي المقبض بعض حزنه .. وعلى الباب أمنية انعتاق .. يتقاطر الأسرى خارج الزنازين في وقت ( الفورة ) .. يفتر ثغر منهك عن ابتسامة خافتة حين تلتقط عينه أوّل شعاع .. وفي لمحة خاطفة ينثر أحدهم روحه في العراء ويرسلها بعيدا ويدع الزنزانة فارغة إلاّ من جسده ! .. يتدثر آخر بنجمة تغادر مكانها ويشتعل بوهجها .. يثقل أحدهم بترنيمة تنطلق بالشّوق في ناحية حبّ وضيء .. ويركض البعض مع نسمة هوجاء يسرقون منها قوّة الريح .. يتجمّع بعضهم تحت لسعة الشّمس ويغرقون في شلال الدّفء ..
في الفورة يذوب اليأس ويصول الوقت في نبض كثيف ..
لو أنّ أحدا يثاقل الخطى ويوقف الزّمن ويُبقي هذه الإغفاءة اللّذيذة .. ريثما يفلت أسير ويكتمل له اشتعال جميل !
في لمعة من الوقت يسوّر الأسرى ينابيع بقائهم من اعتداء الموت .. ويرتشفون الحياة .. يرشّ أسير على مسائه نهار استلّه من الفورة ويشعل به قناديل اللّيل .. في غيب الروح تصبح المسافة إلى الأمل أقصر ويضمّدون جراح تنهيدة ترتجف ! ..
للحلم نشوة ويجوز فيه الوله ويحلّ فيه الامتزاج .. الحلم هو فيضان الرّوح على لغة الجسد الظّامئة .. هو الحروف التي ترسم في الزنزانة خارطة الوصول .. فيبلغ السّجين في الليل كل الأمنيات … لذا كانت مهمة يوسف في السّجن تعبير الرؤى .. وقد جعلها الله كلها حقّا !
بعض الأحلام يتلاشى بعدها الكثير من الألم وتمدّ بقية انتظارك بنبض مضيء .. وعلى أستار الحلم يتعلق أسير ولا ينطفىء .. يفترش التّلال والسّهول وينسى صلف الزّنزانة فالرّؤى فاتحة لخاتمة الحكاية ! .. لذا لم تقصّ الرّؤى إلاّ في سورة يوسف السجين
الأسر فكرة فلسفتها أن يحتويك اليأس .. لذا اكتب ألواحك وغادر بها حنجرة الزّنزانة ..
النّجوى في الأحلام هي صوت الوحي .. هي دبيب الفجر إليك .. تحاول الزنزانة أن تبقيك في غروب الشّمس .. وتغلق عنك صوت السّماء ..
للهمس في الأحلام رائحة الأمل تحبو إليك .. فلا تبدّدها بالتّحديق في جدران الزّنازين .. ماذا عليك لو آمنت أنك من يسند لنا حلم العبور إلى الأقصى ! .. ماذا عليك ؟! .. لا تنشغل بمقبض الزنزانة ورتّب انتصاراتك .. ثمّة من يراهن على يباسك ! .. أغمض عينيك وكرّر سورة الحلم واجعلها بعض التراتيل .. وكلما سمعتَ الهمس أفرغ حزنك في المحبرة .. فالحرّيّة تمارس عبر القلم .. والكتابة هي الجمال الذي نعتذر به عن قبح ما تبعثره الزّنازين ..
الأسير فقط من يخلق علامة ترقيم جديدة على سطور الألم .. علامة كبرياء تتجاوز الاهتراء ونغادر منها إليك !
اكتب فإن الكتابة هي الشاهد الأكيد على مرورنا على هذه الأرض .. اكتب فأنت قصّة الشّطآن التي لم يبتلعها التراب وعادت إلى منابتها .. عادت إلى البحر .. وكلما اشتدّ الحنين عليك اكتب لنا عن نضوجك في اللّيل .. عن دمع السّنين لم تلتبس به الرّؤى .. وعن لظى الموج في تفاصيله كيف هزم الطّوفان واسترخى المركب على صفحة حلم صار نهار الحقيقة القادمة ! ..