
كتبت: حياة أنور دوابشة
صباحاً نستيقظ على أفكارهم، حماسهم، هجومهم، كرهم وفرهم، دفاعهم عن مبادئ أشبه بالأساطير والأحلام؛ في صعوبة الوصول إليها، إلى جانبهم نتحضر لنشهد حرباً ضروس، كانوا فيها فرساناً لا يعتلون خيولاً ولا يحملون السيوف.
وحين نمتلك خيار أن ندخل عالمهم، علينا أن نتجرع مسكناتٍ للألم، دون مبالغة، فالجلوس برفقة طفلٍ أسير، يستدعي أن تتحضر لمعركةٍ مع قلبك، مع مصطلحاتك الناضجة، وأن تلوم معلم اللغة العربية، ذلك الذي زرع فيك إيماناً بأنك ستصل بكتاباتك إلى النجومية.
قناع القوة
الحقيقة تقول أنه كان على معلم اللغة العربية أن يعلمنا كيف نخلق كلمةً بحقهم، كيف نصف بطلاً، إن لم يكن يعتلي حصاناً وليس بيده سيفٌ ما، كما تخيلنا، إن لم يخض حرباً فعلية، إن لم يرتدِ لباسَ مدرعٍ، كان من الأجدر به أن يزحزح فكرة البطل الأسطوري هذه من أدمغتنا، البطل اللاواقعي والذي زرعته مسلسلات ديزني في رؤوسنا، وكذلك فعلت هوليود حين كبرنا.
كان من الممتع لو أنه علَّمنا كيف نحوّل بالكلمات أنظارهم صوب بطلٍ من نوعٍ مختلف، كيف نجعلهم محور الحكاية وقلب الحياة، وقد نسيهم العالم، ونسيتهم ملاحم الأبطال، ولحقت بها كتب التاريخ التي لا تستطيع إلا أن تتغنى بأمجادٍ ماضية كأنها لن تعود لتتكرر، وآمنا بسبب ذلك أن هذه الأمجاد لن تعود فعلاً.
في الطريق لبيت الأسير سمير كوسا، كانت هذه جملة الأفكار التي داهمت عقولنا، فحين تتحضر لزيارة بيت أسير، تتوقع كل شيء، عليك أن ترتدي قناع القوة والصلابة، عليك أن تتحضر لجولةٍ من الدموع، وعلى قلبك أن يتحكم بسرعة نبضاته.
تخيل كيف سيكون التحضر لزيارة منزل أسير يواجه حكماً بالسجن المؤبد مدى الحياة، أسيرٌ لم يستطع أن يقف مكتوفاً أمام منظر إحراق عائلة الدوابشة، فخرج يسترد جزءاً من كرامة شعبٍ مهدورةٍ على قارعة الطريق.
تعريفٌ لأجله
الغوص في تفاصيل عقل طفل أسيرٍ وجد نفسه فجأة يتعامل مع مصطلحات أكبر من سنه الغض، وأقسى من براءة عينيه البنيتان، يتطلب التعريف بقصة والده الأسير وأمه جريحة القلب، قوية البصيرة.
قبل أواخر تموز لعام 2015، كان الأسير سمير زهير كوسا(34عاماً) من مدينة نابلس، يعيش برفقة عائلته المتواضعة، زوجته الطيبة ولاء أبو خميس، وطفلته الخجولة سبيل، وشقيقتها صاحبة الوجه البشوش جنى، وطفله الفطين البريء زهير، حياةً هانئة.
حتى حدثت جريمة إحراق عائلة الدوابشة، حين امتلأت وسائل الإعلام بصورٍ مفجعة للعائلة التي تعرضت للحرق حيةً على يد مستوطنين، لابد أن سمير وقتها هزته المشاهد، ولم يكتف بأن ينظر فحسب، وأن يلعن ويشتم ويفضي أمله لرب العالمين، بل اختار أن يتحرك، ويقابل العين بالعين.
وكان أن حمل الأول من شهر أكتوبر لعام 2017، انتقاماً فريداً لهذه العائلة التي نسيها الجميع، باستثناء سمير ورفاقه، فقد نفذوا عملية قرب مستوطنة إيتمار أسفرت عن مقتل مستوطنٍ وزوجته، وتركوا للجميع درساً عن الكرامة والرحمة، فلم يقتلوا الأطفال الذين كانوا موجودين برفقة عائلتهم، على خلاف فعل المستوطنين، الذين أحرقوا الطفل الرضيع علي دوابشة، وتركوا شقيقه أحمد يعاني من كوابيس الحادثة حتى اليوم.
بالنسبة لزوجة الأسير سمير الكوسا، ولاء أبو خميس، فقد اتضح لها بأن زوجها مليءٌ بالمفاجآت، كيف تناولا طعام الإفطار صباح ذلك اليوم وكأن شيئاً لم يكن، كيف قالت له بأن من فعل العملية انتقاماً لعائلة الدوابشة بطلٌ، وابتسم هو ولم تفهم هي المغزى.
الطفل الكبير
عقب الغوص في قصة الأسير سمير الكوسا، نعود للسيارة المتجهة صوب منزله، القلب يتحضر لمشاهد مؤلمة، ولأحاديثٍ وذكرياتٍ سبّبت لدموع زوجة الأسير سمير الجفاف، وأصبحت حين تتحدث حولها كمن يسرد قصةً من كتابٍ معروف، يتغاضى عن كثيرٍ من التفاصيل، لواقع أنها باتت معروفة، ويكتفي بسرد الحقائق مغيب المشاعر والواقع.
طرقنا الباب، ففتح الطفل الكبير، نظر بعمق لعيوننا ثم استدعى والدته، وحان موعد ارتداء قناع القوة، لكن عيون الطفل بقيت عالقة في مكان ما من القلب والعقل الفضولي، فكان لنا جلسةٌ خاصة برفقته.
على درج منزل الأسير سمير الكوسا، المعاد بناؤه، جلس زهير، يقص علينا كيف اقتحم الاحتلال منزلهم قبل أيام، كيف دمر محتوياته، وخرب ألعابه وغرفة نومه، يحكي لنا تفاصيل زيارة والده، ببراءة، كمن يقص عليك أحداث رحلةٍ ترفيهية.
زهير يبلغ من العمر ست سنوات، وقبل اعتقال والده كان طفلاً بعمر الرابعة، وفرق السنتان يستدعي أسئلة أكبر من عمر الصغير، لكنه كان ذكياً في إجاباته يحذوك الفضول إلى أن تتابع يديه وهو يشرح لك، وعيونه وهو يستذكر ما حدث معهم.
مفهومه عن المؤبد
في مدارك الصغير البريئة، مفهوم المؤبد ليس معروفاً، سألناه عن موعد خروج والده من الأسر فقال، ربما حين يأتي شهر رمضان في السنة القادمة، زهير الصغير لمح في عيوننا دمعةً تقاوم المشهد، تحاول أن لا تسقط، فاستدرك إجابته وقال: أمي لم تقل لي عن موعد خروجه، وأردف بلهجته”بس الموعد قرب…أنا بعرف أكثر من ماما”.
قلنا ربما يحمل كلام الصغير فأل خيرٍ وتتحقق أمنيته، فلطالما آمنت بأن الصغار تشرّع لهم أبواب المعرفة الناضجة أكثر ممن انغمسوا في وعورة الحياة، ونسوا أن يفكروا بقلوبهم رفقة عقولهم المشتتة.
لم يكف زهير طيلة المقابلة عن حمل المايكرفون الخاص بالكاميرا، يرتديه ويلتقط صوراً به، يود أن يدخل الصورة في الزيارة القادمة لوالده، سيخبره بأنه بات لديه طموحٌ كبير، يود أن يصبح صحفياً، فسيتاح له أن يوصل قضية والده، وسيكون أقدر على وصف ألم مجتمع الأسرى، ولابد أنه سيكرس مستقبله المهني خدمةً لهم.
أخبرنا زهير أن الاحتلال منع مرةً إدخال صورةٍ لشقيقتيه بحجة أنهما ترفعان إشارة النصر، وعقب قوله بأنه لا يعلم السبب، تهنا في ثنايا عقله البريء.
عقل الطفل زهير بالنسبة لإنسان يرى بعيداً، عقل طفلٍ نضج قبل أوانه، فحين كانت شقيقته سبيل تتحدث لنا عن عدم سماح سنها، والذي أصبح ثماني سنوات، من الدخول لما بعد حدود الزجاج لمعانقة والدها، كان زهير يغوض في حديثها، رأينا فيه الطفل الذي يشعر بأن شقيقته تتألم حين تراه ووالده من خلف الزجاج يتعانقان ويطبع والدهم قبلةً على خده، ويدفن زهير نفسه في حضنه.
كان الطفل الكبير يتابع حديث شقيقته بلهفة، غارت عيناه حين قالت: يتاح لشقيقي زهير فقط الآن، أن يدخل إلى الداخل عند والدي، ويحضنه ويقبل رأسه.
بدا زهير كطفلٍ شاخ فجأة حين سمع الحديث الذي دار بيننا وبين شقيقتيه ووالدته، وبدا بالنسبة لي كشخصٍ لا يستسيغ مصطلحاتنا، حين نقول مؤبد وحاجز وكانتينا ومنع أمني، بدا كشخصٍ يحاول استيعاب هذا الكم من الكلمات.
وحين ودعنا زهير أيقنت أنه لا يعلم كم هي مدارك المؤبد، وعلمت أنني لا أملك الحق كي أخبره كم هو مقدار المؤبد، وأيقنت بشكلٍ خاص أننا أيضاً لا نعلم مكامن هذا الرقم العملاق، كيف كنا سنشرح له بأن عقولنا لا تتفاعل مع الرياضيات وبأننا أدركنا متأخرين أن دروس الحساب “لازمة” حين نحسب أعمارهم، وحين نحاول معرفة كم قضوا خلف القضبان، ولازمة للرد عليهم حين يستخدمون النص الشعري للشاعر هشام الجخ: أن لا أحفظ الحكام والأسماء إذ ترحل.