الأسرى المضربين

العريس المنتظر منذ 14 عامًا ونصف..

بقلم: هبة موسى أبو ستة.

جهّزي ياسمين الطفولة فإني خارج يا أمي، خبّئي تذكار الفرح وزغاريد البهجة، اُنثري الورود في شوارع عصيرة الشمالية، جدلي ضفائر الوطن، وزيّني بها جدران منزلي الجديد.

افرشي سجادة الشوق؛ لأؤدي صلاة الإنتماء لنابلس التي اُحب، لأقول للوطن أني وصلت وها أنت معي مزروع في تربة روحي، في عمق فؤادي، في غصّة وجعي.

الوطن الذي خبأته في جوف روحي مع الحلم والنبض قبل أربعة عشر عامًا ونصف.. غفا مع الدموع والقهر، مع وريقات الأمل وخيوط الشمس التي كانت تسترق الدخول لتقول لي أشعتها أنها تنتظرني خارج جدران الأسر بلا قيود أو أغلال، بلا غاز سيرشّه السجان في غرفنا المغلقة، بلا هراوات تنهال على أجسادنا بعد أن نوجعه بصمودنا..

 

في الرابع عشر من ديسمبر 2001 إعتقل المحتل الشاب بلال وجيه كايد وأودعه في جوف الأسر الذي تكبر جدرانه لتقف حاجزًا منيعًا بين الأسرى والكون.

صدر قرار محكمة الاحتلال أنذاك بسجنه أربع عشرة عامًا ونصف العام بتهمة الإنتماء لكتائب الشهيد أبو علي مصطفي الجناح المسلح للجبهة الشعبية وتشكيل خلايا عسكرية لمهاجمة العدو.

كل تلك السنوات الطويلة من الإنتظار قضاها الأسير بلال ممزقًا بين ظلمة الألم وشعاع الأمل بأن غدًا سيكون جميلًا حين يخرج من الأسر.

أحلام رسمها في ذهنه وحيدًا في عزله الإنفرادي وحملها مع القيد الذي يكبّله من سجن إلى آخر، فالمحتل لم يدع له فرصة للإستقرار في سجن محدد، بسبب نشاطه ووقوفه خصمًا عنيدًا في مواجهة السجان ومصلحة السجون.

ترك بلال بصمة لا تُمحى من الزنازين فواصل تعليمه واكتسب العديد من المعارف، وعمل على تعلّم عدة لغات أجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وقرأ الكثير من الكتب مما أهّله ليكون قائدًا فذًا وشخصية محبوبة تركت أثرها الطيب على الأسرى ليتم انتخابه في لجنة الحوار الوطنية مع إدارة مصلحة السجون.

خارج الأسر كانت أسرته تعدّ له استقبالًا يليق بالأبطال الفاتحين بعد أن بَنَتْ له بيتًا وأثّثته لتزفّه عريسًا بعد عيد الفطر، ولكنّ الاحتلال -كعادته- نغّص تلك الفرحة وقرّر في ذات يوم الإفراج عن بلال تحويله للاعتقال الإداريّ، فكانت الصّدمة التي أرهقت أرواح المنتظرين والمهنّئين تحت وهج الشمس في نهار رمضان، فلم يتزيّن العيد برفقة بلال ولم ير هذا الأخير إبتسامة والدته ولم يحتضن إخوته وأقرباءه وأصدقاءه ولم يقرأ الفاتحة على قبر والده الذي توفي قبل عام دون أن يراه..

صُدم بلال بالقرار الجائر وقرّر خوض إضراب مفتوح عن الطعام، مصمّمًا على الإنتصار ونيل الحرّيّة بكبرياء وكرامة.

 

لقد دبّرت مصلحة السجون المكيدة مع مخابرات الاحتلال التي أصدرت حكمًا باعتقاله إداريًا وعزله في سجن عسقلان، ضاربة بعرض الحائط كل المواثيق والأعراف الدولية في زمن يتغنّى فيه العالم بالعدالة والديمقراطية، وصار الكيان الصّهيونيّ على رأس لجنة مكافحة الإرهاب في أروقة الأمم المتحدة وهو المختصة في التعذيب، القتل، التطرف والإرهاب، وهو ما تشهد عليه اجساد الأسرى المتهتّكة من التعذيب وارواحهم التي تلاقي كل صنوف العذاب، لكن العالم لا يبصر الحقيقة التي تزعجه.

 

بلغ الأسير كايد يومه 57 في الإضراب المفتوح عن الطعام مكبل في سريره في مستشفى "برزلاي" يعاني الألم في ظل الصمت المطبق الذي خيم على عالمنا العربي، ولا تتسع دائرة النصر إلا من خلف قضبان السجن ليدخل تضامنًا معه في إضرابه 100 أسير حتى يبلغ اعتاب الحرية، ومازالت سلطات الاحتلال تهدد بعلاجه قسريًا اذا ما فقد الوعي لتدهور حالته الصحية.

 

أضرب بلال كايد وسينتصر ولعلّه يناجي أمّه الآن بهذه الكلمات:

"ساعات وسأخرج لأتوضأ بندى الزهر، الثمُ شفاه الحنون الأحمر الذي أحفظه بداخلي.. ساعات وسأخرج لأرى وجهكِ يا أمي جميلًا موشومًا بالصبر والصمود.. سأحتضن تراب قدميكِ.. سأقضي كل الليالي المقبلة في أحضانكِ يا أمي..

الساعات تسير ببطء وأنا أسمع حثيث أرجلكم تسير لإستقبالي..

آه يا أمي كل صور الفرح إختفت من أمامي، وكأن الوجع الأن سرمديّ لا ينتهي لكن عشق الوطن مربوط  بأوردة القلب مع كل نبض أشعر أنه يحنو علي أكثر.. وأكثر."

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى