الأسرى المرضىبالورقة والقلم

الشّهيد الحيّ معتصم رداد وحوار ما قبل الموت

كتب:- بقلم فؤاد الخفش.

 

لا تظنّوا يا رفاق أنّ الشّهداء هم المتسربلون بدمائهم فقط، والمتغيّرة ملامحهم من جرّاء القصف، المبتورة أياديهم بعد انفجار اللّغم أثناء الإعداد، المبتسمة ثغورهم وقت إنزالهم اللّحد، المسرعة جنازتهم وقت الرّفع على الأكتاف.

هناك في بلدي المحتلّ فلسطين نوع آخر من الشهداء (وهكذا نحسبهم) والله حسيبهم ومولاهم، يموتون في اليوم ألف مرّة ومرّة، ويُقتلون في السّاعات مرّات ومرّات، يتمنّون الموت ولا يجدونه، يبحثون عن الشّهادة ولا تأتي، تغيّرت أشكالهم وشابت رؤوسهم وضمرت عضلات أجسادهم، وتغيّر فيهم كلّ شيء إلاّ حبّ الأوطان.

في تلك السّجون العالية المشيّدة لقتل الرّوح وإنهاك الجسد يقبعون، يواسي الشّهيد منهم الشّهيد، ويمازح المريض زميله المريض، متسائلا من منّا سيسبق الآخر لمشرحة “أبو كبير”، ومن سيكون نزيل الكيس الأسود قبل صاحبه.

يؤكّد الشّهيد لزميله الشّهيد أنّ “السّلطة لن تقصّر وستكون أوّل من ينسّق مع الصّليب الأحمر لاستلام الجثمان وسيكون القادة حاضرين لالتقاط الصّور والتّعبير عن حزنهم على استشهادك وستحظى يا شهيد بآلاف القبلات وسيخرج المختصّون يكرّرون ما سبق أن قالوه يوم استشهاد زهير لبادة وسلّم جثة هامدة وسيحمّلون الاحتلال المسؤوليّة كما حدث يوم أبو ذريع، وميسرة أبو حمديّة وعرفات جرادات، والتّرابي.”

“أتذكر يا منصور موقدة كيف كانت جنازة التّرابي حسن الذي كان معنا في مستشفى سجن الرّملة؟” يسأل معتصم رداد، فيجيبه منصور “نعم أذكرها وقد لعنت كلّ أصحاب ربطات العنق التي كانت موجودة هناك، والتي كان كلّ همّها وضع الوشاح أو العلم أو الرّاية والتقاط الصّورة.. أذكرهم!”

ويسأل معتصم “أتظنّ أنّ تهديدات المسؤولين وقت الجنازة حقيقيّة وأن تحرّكا ما سيحدث؟” فيجيب منصور “يبدو يا صديقي أنّك بِتَّ تهذي من الأدوية التي تحقن بها، هي الكلمات والجمل والعبارات وقسمات الوجه ذاتها، الأسماء فقط تتغيّر: حسن بدلاً من ميسرة، وميسرة بدلاً من عرفات”.

مجرم من ظنّ أنّ هذا الحوار افتراضي وأنّه لم يحدث وأنّها فقط كلمات من أجل الصّفّ أو خلق حالة من التّضامن أو جمع (like) على مواقع التّواصل الاجتماعي، إنّها زفرات أسرى مرضى على أسرّة الموت المُعدّة لهم، بعد أن تغلق عليهم الأبواب وتُطْفأ الأضواء ويحتضنون الوسادة لعلّها تشعرهم بنوع من الدّفء بعد أن تخلّى عنهم الجميع.

هي أنّات معتصم رداد الذي قال في آخر رسالته لم أعد أخشى الموت، ففي كلّ يوم أموت ألف مرّة ومرّة وفي ساعة أتمنّى الشهادة ولكن الله لم يشأ بعد.

معتصم الذي جلست معه في مستشفى سجن الرّملة قبل قرابة عامين (والله يشهد) لمست في عينيه ذلك الحبّ للحياة والوطن الذي وجدته في عيني أشرف أبو ذريع. كان يسأل عن كلّ شي وحمّلني مئات الرّسائل للنّاس يعبّر فيها عن شوقه وحنينه وحبّه للنّاس والأهل.

معتصم الذي تسوء حالته يوما بعد يوم شهيدًا وإن لم يستشهد، ميتًا وإن لم يوضع في القبر، حيّا في قلوبنا رغم أنف كلّ مسؤول وزعيم وقائد فصيل وحزب يتاجر باسمه ويرتقي على حساب معاناته وآلامه.

معتصم لم يقف معه أحد الوقفة التي يستحقّها إنسان بوضعه! وهو الذي لم يبخل على وطنه بشيء وهو المستعدّ على الدّوام للذّود عن حمى هذا الوطن، وهو من قال بحقّه مدير الاستخبارات في مصلحة السّجون الصّهيونيّة (بيتون) “بعد خروج معتصم وقبل أن يموت سيشكّل خلايا لقتال إسرائيل”.

للأسف على الدّوام أقول إنّ الأعداء يقدّرون رجالاتنا أكثر منّا معشر الفلسطينيّين ويعرفون قدرنا أكثر بكثير من أبناء جلدتنا الذين أعملوا سيوفهم في بعضهم البعض.

لمعتصم الشّهيد الحيّ أقول لك “أخجل من النظر إلى صورتك، وأشيح بوجهي حين أرى والدتك تحمل صورتك على أبواب الصّليب الأحمر، وألعن حين أراها كلّ مسؤول، وكلّ ناعق يطلب الحرّيّة لك وهو يدخّن سيجارة وينظر لصورته في عين الكاميرا”.

معتصم… الكلّ قصّر، حتّى الذي رفع صورتك وهتف باسمك، فأنت يا معتصم لست حالة، ولا مجرّد اسم! أنت الوطن بكلّ ما فيه من تفاصيل، أنت المقاوم الذي لا تلين له قناة والذي يعشقه الوطن.

أنت صورة ذلك البطل الذي نريد لأطفالنا أن يتعلّموا منه كيف يقاوم الفلسطيني المحتلّ والموت معا، دون خوف من هذا المحتلّ ولا ذلك الموت.

قبل انتزاعك حرّيّتك التي نتمنّاها على الله أن تكون قريبة، لك منّا كلّ الحبّ يا صاحب البسمة التي نحبّ، وإنّ النّصر مع الصّبر، حفظك الله يا رفيقنا ويا شامة عزّنا يا معتصم رداد.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى