
كتبت: حياة أنور دوابشة
لابدّ أنّك كرهت اللّيل ذات يوم، حين لم تستطع جفونك أن تنام، حين دخلت سريرك ذات ليلةٍ مجبرا، فالكلّ نيام، جسدك نائمٌ منهك، لكن عقلك متيقّظٌ وفي أوج نشاطه، وددت لو التقى نشاطك العقلي بالجسدي ذات مرّة، لكنت حقّقت الكثير، إن كان ثالثهما تيقّظك للواقع المحيط وأذنك المتلهّفة للإنصات.
لكنّها لم تحدث يوما، وفي ذلك مؤامرةٌ ما، يجب أن يتمّ عمل دراساتٍ حولها، مع أحقّية أنّها يجب أن لا تحدث، فمنطقيّا ساعات انشغالك في التّحضير للحياة تتجاوز ساعات عيشك لها، وساعات سعيك من أجل تحقيق السّعادة أيضا تتجاوز ساعات عيشك بسعادة، الكلّ يعمل ليحضّر لحياة ما، ولكن لا يعلم متى سيقف ليعيش الحياة.
كالنّوم المزيّف هذا الأمر، حين تقنع نفسك بأنّك يجب أن لا تفكّر بما حدث معك اليوم وتنام متناسيا أن فترة التّفكير التي تقضيها قبل النّوم هي الفترة الوحيدة التي كنت حيّا فيها خلال اليوم، وهي الفترة الوحيدة ربّما التي استهلكت فيها الأكسجين ودفعت زكاة أمواله لحظة تأمّلٍ قصيرة جدّا.
بدمج كلّ ما سبق مع قصص الأسرى، أتخيّل كيف ينام الأسير في زنزانته، بم يفكّر؟ هل يعدّ الأيّام الباقية؟ هل يصحو ذات صباحٍ ما ويتفاجأ بأنّه قد نسي خلال أسبوعٍ أن يعُدَّ كم بقي له من الأيّام؟ هل حدث ذلك فعليّا حين ينام وفق جدولٍ معيّن، ويستيقظ وفق جدولٍ معيّنٍ أيضا؟ بم سيفكّر قبل هذا اليوم؟
ماذا عن أسيرٍ قضّى 20 عاما في السّجن، فقط 20 ليسهل التّخيّل، فنحن نعلم أنه رقمٌ صغيرٌ، وهناك ما يتجاوزه، لنفترض أن هناك أسيرا في السّجن، يتحضّر للنّوم، وهناك فعلاً أحدٌ يتحضّر لذلك، ربّما الآن، إذا لنتخيّل آليّة نومه، سيتقلّب دهرا على وسادته، سيفكّر في حياته ما بعد الحرّيّة، سيتأكّد من أيّامه التي أمضاها، هل أنهى سنتين هنا، ذهب القليل وتبقّى الكثير الكثير، سيتخيّل نفسه حرّا، سيرسم ملامح فرحة ذويه باستقباله، سيحاول تذكّر طعم خبز الطّابون الذي كانت تعدّه والدته، سيحاول تناسي حقيقة أنّها ماتت وهو في الأسر، ولن يتذوّق طعم الخبز ذلك مجدّدا.
سيلوم نفسه، كيف نسي طعم الخبز الذي كان يخرج من تحت أنامل والدته، سيضرب وجهه، سينتقل من تلك الفكرة، إلى صورة يعلّقها على الحائط مقابله، سيتمعّن في شعر تلك الطّفلة، وسيلمس الصّورة، كما لو كان يلمس الطّفلة حقّا، بهدوءٍ ورقّة، سيحسب عمرها، وسيتساءل إن كانت ستتذكرّه يوم غدٍ عند الزّيارة، سيلوم نفسه فقط على تركها تكبر دون أبٍ، وستدمع عيناه حين يتذكّر حديثه معها حول شراء عمّها لابنته فستانا جديدا.
سينقاد بتفكيره صوب زميله النّائم، سيتذكّر حديثه معه حول دوره في إعداد الغداء، في الغد عليه أن يعدّ طعاما، سيعود بذاكرته إلى بيته وزوجته، حين كان يلومها لحرق الطّعام، وسيتنبه إلى أنّه ربّما سيحرق الطّعام غدا مثلها، وسيلوم نفسه لضحكه عليها.
سيتذكّر شكل الجبال، وكرهه للعمل في الأرض، سيتذكّر شجرة الزّيتون التي قطع غصنا كبيرا منها على حين غرّة من مراقبة والده له، وعلم والده لاحقا، سيتذكر كيف رماه بغلٍّ أسفل الشّجرة وطلب من أحدهم جني حبّاته، سيندم لأنّه فعل ذلك، سيعتقد أنّ الشّجرة لامته على معاملته السّيّئة، سيودّ لو يعود ليجلس تحت تلك الشّجرة، سيمضي في حصد ثمارها ساعات وساعات، ولن يقطع أيّ غصن…
سينقضي ثلث اللّيل وهو يفكّر بأشياء عاديّة جدّا..
سيوقظه من تفكيره، حين يغدو التّفكير نوما، صوت خطوات السّجّان يقترب، سيتفاجأ بأضواء مسلّطة على الجدار حيث ينظر صوب صورة طفلته، ستتّضح الأضواء شيئا فشيئا، سيغدو اقتحاما.
ستنزله يدٌ ما قسرا عن سريره وتضرب الأرض به، سيستمرّ الاقتحام لساعتين وربّما ثلاث، سيرشّ بالغاز، سيُضرب بالعصيّ وأعقاب البنادق والبساطير المصمّمة خصّيصا لإيذاء الأسرى، سيلتفت حوله يتفقّد زملائه، الكلّ استيقظ من تفكيره على الواقع، والكلّ لن يعود للنّوم تلك اللّيلة.
انقضى نصف اللّيل الآن..
أحد زملائهم مفقود، كلّ أغراضهم المتواضعة على الأرض، خلطت كلّ مكوّنات غرفتهم بعضها ببعض، كما لو أنّ إعصارا ترك الكرة الأرضيّة كلّها ودخل زنزانتهم، سينظر اتّجاه الجدار، صورة ابنته مزّقت نصفين، نصفٌ لا يزال ثابتا على الجدار، ونصفٌ آخر اختفى تماما، سيلمس النّصف المتبقّي، لا تزال عينٌ من عيني طفلته موجودة، تحدّق صوبه، تسأله أن يعود.
سيوقظه من غفلته خوف الأسرى معه داخل القسم على زميلهم الذي لم يعد بعد، أين تراه يكون، أحدهم يقول: عندما دخل الضّابط حقّق معه على حدة، ولوقتٍ أطول من وقتنا.
لم يتبقّ شيءٌ من اللّيل..
عاد زميلهم المفقود، كان وجهه ملطّخا بالوجع والألم، عينه لا تكاد ترى ملامحها لشدّة ما تعرّض إليه من ضرب، وجسده يرتجف كلّه، كان على البقيّة القليلة من اللّيل أن تنقضي في علاجه..
وانتهى الليل.
انتهى اللّيل، انتهى النّوم، انتهى التّفكير، استيقظ الأسرى جميعا من التّفكير، ولم يمارسوا طقوس النّوم المزيّف ككثيرين منّا.
فكّر الأسير بكل ما كان بمقدوره أن يفكّر به خلال ليلة واحدة، لم يؤثر ليلة أكثر من أخرى، أعطى كلاّ منها حقّها في التفكير، وتخيّل المستقبل، وعاد لتحريك عجلة التّفكير الرّوتينيّة في اللّيلة التّالية.
ماذا حين تختفي مسبّبات التّفكير لديهم، ماذا حين تختفي نصف الصّورة المتبقّية لطفلته على الجدار، حين تبهت معالمها، ماذا حين ينسى شكل زوجته وطفلته، فلا زيارة في الأفق، وإذا توفّي والده أيضا ولحق بوالدته، متى سيعتذر منه على كرهه للعمل في الأرض، ماذا لو قرّر شقيقه بيع أرضهم، تلك التي تنبت فيها شجرة الزيتون التي قطع جذعها بكلّ قوّة، كيف سيقف بجانبها ويهوّن عليها بزراعة شجرة أخرى في الجوار، ماذا لو تحرّر كلّ رفاقه في الزنزانة قبله، الأسبوع المقبل سيخرج اثنان.
ماذا لو جاء اثنان جديدان للغرفة، وخرجا وهو لا يزال في ذات الغرفة، ماذا لو جاء آخران، وآخران، وإذا كبرت طفلته وتزوّجت وضاعت تلك الصّورة، ماذا سيحدث حينها وما الذي سيعوّض عن ذلك الوقت والبعد المدمي.
“لو” هنا ليست من الشّيطان، إن قلت أنّها تحقّقت وأنّ القصص السّالفة ليست خيالاً أو كتاباتٍ أدبيّة وإن خلت من أسماءٍ ظاهرة، ليست مبالغة ولا بأيّ شكل من الأشكال، وتقاس على آلاف الأسرى مازالوا هناك.
“لو” ليست شيطانيّة هنا، إن علمنا أنّ الأسير يفكّر بأشياء صغيرة، بحقوق متدنّية المطالب، وينتظر يوما ينقضي إثر يومٍ من عمره، من عمره، نعم، أيّاما لن تعود.
فعليّا، هل سيعود ويرى الخطوات الأولى لطفلته؟ هل سيشاهد سنّها الأول؟ هل سيعود ليشتري لها دبّا محشوّا تنام بجانبه فينسيها خوفها من اللّيل؟ هل سيعود ليراها حين تكبر وحين تتزّوج وتزفّ لعريسها؟ هل سيستطيع أن يلتقي ابنها، ويحضنه ويشمّه قبل أن يموت؟ لكنهم يكرهون من يقول بأن هذه الأيام لن تعود.
ماذا سيحدث له، حين يبكي طفله الصّغير عند تحرّره ويطلب من والدته أن تذهب لترتدي حجابها أمام والده، اختلطت مفاهيم الصّغير، يرى في والده شخصا غريبا على أمّه عليها أن تضع أمامه غطاء رأسها السّاتر، ماذا سيقول له والده، كيف سيقنعه، بل كيف سيتعامل مع الموقف، وكيف سيتمالك نفسه ويمنع عينيه من إنزال الدّموع، مع العلم أنّ هذا حدث.
هي ليلة ونومٌ حقيقيٌ لهم وليلةٌ ونوم مزيّفٌ لنا، هي حرّيّة لهم وأسرٌ لنا، هم أحرارٌ هناك ونحن عبيد الحياة ها هنا.