
بقلم : الدكتورة كفاح أبو هنود
في قلبي اللّيلة مظاهرات حاشدة لعواطف لم تحكى .. لقد كانت قصّتنا في عقلي حاضرة طوال هذه السّنوات مثل اقتباس رفيع لا يستحقّ علامة التّنصيص بل رفّا من التّاريخ .. نعم رفّا من التّاريخ ..
يقولون أنّ التّحديق الطّويل يعني صلة وثيقة بذكريات تحاول أن تمضي من لقطة عينيك ! .. وأنا اللّيلة أتأرجح بين ماض يغادر ومستقبل مجهول .. لذا لم أتوقّف عن الغياب في التّحديق نحو كلّ شيء ! .. قبل أيّام كنت قديما مثل عازف يأتي بعد نهاية الأغنية .. مثل اللّيل في الشّتاء .. مثل المطر وهو ينهش في صدر مريض معلول .. كلّ سطر لك كنت أكتبه هو تأتأة الوعود التي لا تحدث .. وفي صوتي كانت زحمة مشاعر لكنّها مثل أماكن خذلها النّور واحتلّها الليل .. لذا أخشى أنّك لن تسمع صوتي في البداية .. أقصد ربّما أحتاج صوتك أكثر في البداية .. ربّما أحتاج واجب العزاء في كلّ الأوراق اليابسة التي سقطت في خريف البعد عنك …
يؤرقني هذا السّؤال .. كيف سأشتعل ثانية ؟ .. وأنا مثل شهاب مضيء هوى كلّه .. قلت لنفسي مرّة أنّ الأسر فكرة .. والسّجن مزاج .. وما بينهما روح موؤودة .. لذا بعض السّجون بلا أبواب وبعض السّجون لا تنتهي ! .. أحيانا بل دوما في فترة الأسر كنت أحتاج وجهك .. وجهك فقط .. فوجهك هو سقف الكفاية ! .. وكانت تلك أمنية المستحيل.
اللّيلة أنتزع من الذّاكرة آخر مرّة فتحت فيها الباب .. كان ملمس مقبض الباب عاديا فلماذا أرتجف إذا تخيّلت يدي وهي ستمسّه من بعد الغد عشرات المرّات كلّ يوم .. لماذا كلّ هذا القلق .. هل سقطت حجارة السّجن في قلبي ! .. هل أنا عاجز عن النّهوض من هذا الوحل .. كيف تزدحم كل هذه الأسئلة الرّهيبة .. هل عاث بي الجفاف ! ..
قمت مسرعا إلى قنّينة العطر وتأكّدت من بقيّة الرّذاذ .. قلت في نفسي .. هذا مناسب لأوّل لقاء مباشر .. أسرعت إلى الفراش وتغطّيت، كنت أشعر بالخوف .. وكنت أريد أن أصرخ في وجه اللّحظة الفارقة بين زمانين أن تتوقّف عن تعذيبي .. ربّما لأنّي كنت أخشى من الخذلان ! ..
أتساءل اللّيلة إن كنت سأجد قطعة منّي تنتظرني في كتاب تركته مفتوحا يوم داهمني الاعتقال .. إن كنت سأجد بقيّة كلمة ظلّت معلّقة بيني وبينك .. إن كنت سأجد بقيّة عرقي في ثياب النّوم تحكي عن اختلاف الرّائحة بعد الأسر .. عن توقّف النّبض في منتصف اللّيل..
يا إلهي لماذا أفكّر بهذه الطّريقة ؟! .. هل أخشى الحرّيّة ؟! .. أم أنّ الشّوق لها جعلني مثل عاشق يستحثّ قلبه أن لا يتشاجر مع عقله وهو يطرح أوّل سؤال لحبيبته .. ثم يخشى فجأة أن تفضحه ردود فعله المرتبكة .. كان لا بدّ من أن أكون شجاعا لذا واسيت نفسي قائلا .. لا بأس ستحيك الأيّام كلّ الغرز في الجروح الغائرة .. ربّما .. لكن كيف سأُخرج هذا البرد الذي تراكم في داخلي .. كيف سأتوقّف عن النّظر إلى الجدران الفارغة .. كيف يمكن أن أمشي خفيفا دون أن أجمع صورة السّجن في كلّ صورة خارج الأسوار ! .. ماذا أفعل بالحزن إذا داهمني كيف أستره .. كيف أخبرهم أنّ بعضي لا زال مختطفا .. ما أخطر السّجن إذا طال لأنّه يصبح قادرا على إيقاظ النّسيان ! .. على إيقاظ الأشجان ..
تنهّد قائلا .. هل صحيح إذن ما قيل عن العزلة؟ أنّها موضع الماء على النّار ! .. لا تنتهي إلاّ بتلاشي شيء فينا .. ربّما لن يكون الأمر بهذا السّوء .. فالبعد عن الحرّيّة كان بمسافة الكبرياء التي لم تنهزم في برودة السّجن .. بمسافة الصّبر التي كانت تنتظر صباح الخير لمن لم يغتالهم القيد .. بمسافة المقاومة للرّيح التي ظلّت تعبث بالأغصان وتعجز أن تكسرها .. بوهج قناديل الفرح التي لها تاريخ مع الأسى .. بمدى المسافات المزهرة التي عبّدها الدّعاء في السّحر .. وبحجم آلاف البساتين التي نبتت من الذّكر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله .. و بكلّ نهار كان يستند على حسن الظّنّ بالله رغم فراغ أكواب القهوة من نبوءة مبشّرة ! .. طوال الليل كنّا نلثم السّجود ونمدّ أعيننا في الصّباح ننتظر مداهمة الفرج .. وفي المساء كنّا نعود إلى باب الله وننتظر .. وكان هو يهرول إلينا ! .. لذا لا بدّ أن نتعلّم كيف نتصالح مع النّسيان .. وأن ندرك أنّ تلك السّنوات كانت تقيس الملائكة فيها المسافات بالشّهقة والأنين وتضع النّقاط على حروف الصّبر وتجمع لك الوجع مثل عطر تغلقه في قارورة وتختم عليه ثم ترسله إلى المدن المنكوبة في صدور الأسرى .. هذه المدن في ظاهرها الحزن وفي باطنها وثيقة الفردوس !
كان السّجن يضجّ بالحركة ولا أحد قادر على النّوم .. البعض كان في حالة استعداد مدهشة مثل ورقة في تقويم جديد يستعدّ للبداية الصّاخبة … صوت الذّهاب والإيّاب لم يتوقّف وكمّية من الحديث المتدفّق لم تهدأ وفرح مشوب بحزن داخلي في عيون تكاد تغرق بأمنية الخروج .. تمتلئ الغرف بالضّحكات المحشوّة بمرارة مبهمة .. يحدّق الباقون في المغادرين كأنّهم لحظة خيال ستنتهي .. كأنّ السّابق ينزلق بسرعة من أيدي السّجناء الباقين إلى واد من ذكريات الأيّام الماضية .. هل سمعت يوما بتوأمة الفرح والحزن .. تلك لحظة لا يفهمها إلاّ الأسرى !
لماذا تشدّني الآن بحّة صديقي .. لماذا يبدو الوداع لهم مثل حداد .. لماذا تبدو اللّيالي التي قضيتها معهم مثل دين أحمله إلى الخارج .. لماذا أعجز اللّيلة عن مراسم الفرح ! ..
هل تلك هي ضريبة الإنسانيّة .. أن السّلام لا يكون مجزّئا .. لا يحلّ له أن يكون في بقعة دون الأخرى .. ولا يحلّ لي أن أقول صباح الخير لأمّي .. دون أن ترتعش لهذا الفرح كلّ الأمّهات … لهذا حين خرجت كنت نصف محرّر ونصف أسير .. ظلّت رائحة الأصدقاء تغلبني … ظلّت هالات عيني تذكّرني بالجوع الذي تقاسمناه .. ظلّت ارتجافة البرد زخم الحنين لأيّام المعاناة … وظلّت أعمدة الإنارة في شوارع القرية تحيلني كلّ ليلة إلى الذين لا يسهرون إلاّ مع ذكرياتهم .. إلاّ مع الانتظار !