أدب وفنونحروف على أعتاب الحرية

   قصص من خلف الزجاج

بقلم :ياسمين عنبر


لا يكتفي الاحتلال بتغييب الأسير عن عيون أحبّته، بل يمعن في محاولة قهره بحرمانه حتّى من ملامسة زوّاره مباشرة،ولك أن تتخيّل كيف تدور الزّيارة وقد فصل الزّجاج بين الأسير وزائريه، فيحرمه من تقبيل يدي أمّه التي ما فتئت ترفعهما إلى الله كلّ سحر تسأله فرجًا، ويحرمه من أن يطبع قبلة على جبين زوجته التي ضحّت بشبابها منتظرة سلاسل القيد أن تصير عقد فرح في جيدها تتجمّل به ذات لقاء بحبيبها، ويحرمه ذات الزّجاج أيضا من ترك قبلة على وجنتي ابنته لتدفئ قلبها وتسكنه إلى زيارة أخرى…إلى تصريح مقبل …
ذلك الحاجز الزّجاجي يحرمه من أن يرتمي على كتفي أمّ، زوجة، ابنة ..يبكي سنين الحرمان العجاف، يبكي شبابه وهو يضيع بين قهر وظلم، يبكي ابنه وهو يرى شاربه يخطّ في وجهه وقد تركه في لفافة الولادة وعمره لم يتعدّ الشّهرين بعد! يبكي ابنته التي تمنّت لو أنّه يمسك بيدها يوم فرحها ويهبها إلى زوجها وهو يهمس في أذنه: وهبتك قلبي، فلا تؤذه !

انتظر “أبو أحمد” كما يروي الأسير المحرّر ثامر سباعنة زيارة والدته بصبر فارغ، فهي أوّل زيارة يسمح لوالدته أن تحضنه، وأن يلتقط صورة معها.
كان يعلم أنّ أمّه مريضة بالسّكري والضّغط،  ولكنه لم يكن يعلم أنّها هرمت كما قلبها وأنّها تستعين بأبنائه عند المشي، تمامًا كما ترتكز روحها على الدّقائق المعدودة عند رؤيته لتدفئ قلبها بها.
كانت تنتظر تلك الدّقائق التي يسمح لها بضمّ فلذة كبدها الذي غيّبته القضبان عن ناظريها فلطالما قالت له: “متى سيسمح لي يا ضي عيني أتصوّر معك وأضمّك لصدري”.

لم يكن يدرك أنّ هذه الدّقائق ستكون سببًا آخر في صدمته وحزنه، حين دخلت عليه أمّه وهي تمسك بابنته لتكون لها بمثابة عكّاز ترتكز عليه لصعوبة مشيها.
في قاعة الزّيارة، حرصت الأمّ على عدم إظهار مرضها لابنها، فاستندت إلى الحائط.
وما إن وصل حتّى أسرع لضمّ أمّه، فتفاجأ بأنّها لم تتمالك نفسها، وصُدم بعجزها عن الحركة، وعرف أنّها كابرت كثيرا كي لا يتألّم لأجلها.
حمل أبو أحمد أمّه وأجلسها على درج قريب، وانهارا بكاء ووجعًا … يقول: “جلست على ركبتي، فضمّتني أمّي إلى حضنها ضمّة لم أشعر بها إلاّ في طفولتي حتّى اقشعرّ بدني”.

هذا الحاجز الزّجاجي اللّعين هو نفسه الذي رأته الأسيرة المحرّرة منى السّايح زوجة الأسير بسّام السّايح أكبر وأضخم، وقت اشتداد المرض على زوجها.
ففي إحدى الزّيارات المعدودة التي زارت منى فيها بسّام لمّا اشتدّ مرضه، تفاجأت حينها بأنّه فقد صوته، وأنّه يمسك ورقة وقلما ليكتب لها ما يريد.
ولئن كانت قسوة الاحتلال المعتادة متمثّلة في منعها من الدّخول إليه من خلف الزّجاج، فإنّها زادت بأن صار التّواصل قائما عبر الإشارة والكتابة. وتقول منى السّايح في هذا السّياق أن هذا الزّجاج ما وضع إلاّ لزيادة الإذلال لأهالي الأسرى، ولمضاعفة المعاناة ومحاولة لكسر المعنويات وتثبيط الهمم.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى