عين على السجونواقع السجون

المرضى من الأسرى

 

كتب: مروان ابو فارة

 

تشكّل الكتابة عن هذه الشّريحة من الأسرى نكأ لجرح غائر، ذلك أنّ  الإنسان عندما يقدم على خطوة شجاعة مثل مقارعة العدوّ المحتلّ وإلحاق الأذى به في أيّ مجال يضع في حسبانه -على الطريقة الفلسطينيّة- إمّا الشّهادة وإمّا السّجن، فالحديث عن النّصر في الحالة التي نحياها يعتبر ضربا من المحال، فالقضيّة الفلسطينيّة تحتاج إلى أشواط وأشواط من التّضحية والوحدة والاجتماع على نهج واحد، وإذا ما عدنا إلى مجال حديثنا يمثّل الأسرى شريحة كبرى من المقاومين والمعارضين لوجود المحتلّ وسياساته ومن لفّ لفيفه، وإذا خصّصنا الحديث بصورة أدقّ فإنّ ملفّ الأسرى المرضى من الملفّات التي لا تلقى اهتماما واسعا ولا دراسة حثيثة ولا حتّى إحصائيّة، فللأسف نحن لا نرى اهتماما من  الإعلام والقطاع الملتزم بقضيّة الأسرى بملف الأسرى المرضى إلاّ عندما يقضي أحدهم أو يكون على وشك أن يلقى حتفه.

من واقع الحياة التي عشتها في سجون المحتلّ وحسب طبيعة اختصاصي في درجة البكالوريوس كممرّض قانوني، فإنّ كثيرا من الأسرى المرضى يعتبرون إخوة لهم مكانة عالية، وربّما أكون مطلّعا على بعض حالاتهم بصورة مفصّلة. لكن قبل الحديث عن تفاصيل تعامل المحتلّ مع الأسرى المرضى لا بدّ أن نفرّق بين نوعين من الأسرى المرضى فهناك أوّلا الأسرى ذوي الأمراض المستعصية والمزمنة النّاتجة عن إصابات تعرّضوا إليها أثناء الاعتقال وهؤلاء يتمّ تجميعهم في سجن يسمّى عيادة سجن الرّملة في الأرض المحتلّة، ويحتاج الحديث عن هؤلاء إلى الكثير من التّفصيل والتّدقيق والتّحقيق في حالاتهم المرضيّة وما يتعرّضون إليه من إهمال ممنهج وما يتمّ إعطائهم إيّاه من “علاج” واتّخاذهم كأغراض للتّجارب، وثانيا هناك الأسرى المرضى الذين يقبعون في سجون المحتلّ في جميع أنحاء الأرض المحتلّة، وتكون حالات هؤلاء أقلّ تعقيدا من النّاحية الظّاهريّة مقارنة بإخوانهم المقيمين في مشفى سجن الرّملة.

تبدأ رحلة الأسير المريض من خلال عيادة السّجن الذي يقبع فيه وهنا يمكن تسمية المرحلة بمرحلة التّشخيص الطّويل المدى، فعندما يشتكي أسير ما من ألم أو مرض فلا بدّ له من الدّخول إلى قائمة انتظار طويلة تصل بعض الأحيان إلى ما يفوق الشّهر حتى يُعرض على طبيب السّجن. وهناك استثناء واحد وهو أن يخرج الأسير فاقدا للوعي محمولا على أيدي زملائه في الأسر وإن حدث وخرج فإنّه يعود بوصفة واحدة موحّدة تتكون أوّلا من توصية بضرورة الإكثار من شرب الماء. فالعلاج بشرب الكميّات الكبيرة من الماء هو أوّل ما يسمعه من الطّبيب ومن الممرّض المساعد ومن عامل النّظافة المتواجد في المكان عند المعاينة، وثاني أمر يحتل مكانة مهمّة في قائمة التّوصيات هو دواء الباراسيتامول أو ما يقاربه من مسكّن دائم يُمنح بكثرة ودون حسبان، ولا يمكن أن تتلقّى علاجا في السّجن دون أن تتجرّع عدّة أشرطة من هذا الدّواء الذي نسميه تهكّما بالحبّة السّحريّة، وثالث جزء من وصفة العلاج الموحّدة -وهي حسب صعوبة الحالة وطبيعة المرض ومزاج الطّبيب- تتمثّل في المضادّ الحيوي وهو من الجيل الأوّل للمضادّات الحيويّة لا يسمن أو يغني من مرض، وإنّما يتمّ إعطاؤه لإبعاد الأسير المريض عن المطالبة بالعلاج لمدّة تتراوح بين الأسبوعين والشّهر، فيبدأ المريض الدّورة من جديد مستمرّا في محاولات حثيثة لينال دورا للعرض على مختصّ بعد ستّة أشهر، وهذه حكاية انتظار أخرى يطول شرحها لكنّها بصورة مقتضبة تعني انتظار ستّة أشهر للعرض على مختصّ ومن ثمّ ستّة أشهر أخرى لإجراء الفحوصات تلحق بها ستّة أخرى للعودة إلى المختصّ، أي أنّ الأسير المريض يحتاج قبل أن تحدد حالته بصورة نهائية إلى ما يقارب العامين وربّما أكثر.

وبعد أن يمرّ الأسير المريض بدورة التّشخيص كما أسلفنا ويتمّ تحديد مرضه يدخل دوّامة أخرى للعلاج، فعليه أوّلا أن يتنقل بصورة دوريّة من سجنه إلى مشفى سجن الرّملة عدّة مرّات في الشّهر وهذا يعني قضاءه فترة طويلة متنقّلا بين بوسطة وأخرى أسبوعيّا لمدّة لا تقلّ عن ثلاثة أيّام ومن ثمّ لا بدّ أن يشرع بأخذ العلاج المحدّد لحالته وهنا لا بدّ من تسجيل ملاحظة مهمّة، ففي هذه المرحلة تحديدا يمكن القول -وعن تجربة- أنّ الأسير المريض يكون أقرب إلى حقل التّجارب، فهو يأخذ الدّواء بصورة يوميّة من يد الممرّض إلى فمه مباشرة والممرّض يشاهد ويرى ومن ثمّ يفحص إن ازدرد الأسير الحبّة أم لا ومن ثمّ يسأله عن حالته وكيف يشعر حين يتناول العلاج وإذا حدث تغيير على حالة الأسير فإنّه يستدعى  إلى العيادة على وجه السّرعة ويحوّل إلى عيادة سجن الرّملة ويغيّر له نوع العلاج أو يتمّ التّحكم في الجرعة اليوميّة زيادة أو نقصانا.

والجزء الثاني من رحلة العلاج الشّاقّة للأسير المريض هي إجراء العمليّات الجراحيّة إن لزم الأمر، وهذه المرحلة هي أشد المراحل عذابا وألما حيث يتناول الأسير علاجا لا يعرف ماهيّته وتُتابع حالته فيما يتعلّق بتأثير العلاج أوّلا بأوّل، وقد يستمرّ ذلك عاما أو أكثر وقد استمرّ ذلك في بعض الحالات أعواما مديدة. وإذا قرّر المختص أن الأسير المريض يحتاج إلى عمليّة جراحيّة فإن الأمر ها هنا ربّما يطول كثيرا، وحتّى تدرك الوقت المتحدّث عنه عليك أن تعلم أنّ العيادة الطّبّية تفرض على من ستُيجرى له عمليّة جراحيّة إجراء فحوصات تطمينيّة قبل العمليّة بأسبوع على أقصى تقدير، وفي حالة الأسرى المرضى فانّه يتمّ إجراء تخطيط القلب أوّلا وبعد أسبوعين يُجري فحصا للدّم وبعد ما يقارب السّتّة أشهر أو العام تُجرى العمليّة الجراحية، طبعا إن لم يتمّ إلغاؤها في اللّحظة الأخيرة بحجج واهية.

بقي أن أخبرك أيّها العزيز أنّ هناك حالات عدّة مرّت بالذي كتبت عنه باقتضاب، وبعد عدّة أعوام تبيّن أن العلاج المُعطى لا يتعلّق بالحالة المرضيّة للأسير وليس هناك أمام طبيب السّجن إلاّ أن يخبرك بعد أن تمرّ بكل العذاب والألم أنّ هناك خطأ في التّشخيص تبيّنه بالصّدفة ويطلب منك أن تبدأ رحلة علاج جديدة لحالتك المرضيّة الجديدة التي ستكون متأثّرة أو حتّى ناتجة عن التّجارب العلاجيّة التي مورست عليك دون أن تعلم.

ختاما هذا غيض من فيض فيما يتعلّق بالأسرى المرضى لندرك مدى تقصيرنا وخذلاننا لهم وربّما استهتارنا بما يتعرّضون إليه هو جزء من الإهمال الطّبي الذي يعانون منه والله غالب على أمره.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى