
كتبت : اسراء عرير
سكنت فلسطين قلبها قبل أن تسكنها، وشاء القدر أن تتزوّج فلسطينيّ الهوى والهويّة، لتؤسر في عشق فلسطين وعشقه، وترتبط به على أرض فلسطين، قادمةً إليه من مصر، صديقة فلسطين تاريخيّا، وجارتها جغرافيّا.
جعلت من لقبها “أمّ أكرم” ثمنا لفلسطين، فأنجبت لها رجالاً، وصنعتهم كما أرادت، من أجل أن تعيش معهم في حضن وطنٍ حرّ، اقتبست من قوة حيّهم “حيّ الشّجاعيّة” شجاعةً تسري فيهم، وربّتهم على الحبّ والكفاح والنّضال، فكبروا مؤمنين بأن على الذي يعيش في وطنٍ محتل أن يكون قويّا وثائرا ليحرّره.
“للنّصر والتّحرير ثمن غالٍ”، أخبرتني بها كثيرا في عدّة لقاءات، هي تلك المرأة القويّة الصّابرة “أم أكرم حسنين” التي صبرت في محطّاتٍ عديدة سُجّلت بماءٍ من ذهب في سجّلات التّاريخ والمجد، أبرزها في عام 2004 حين اقتحم الاحتلال منزلها في حيّ الشّجاعيّة شرق مدينة غزّة، وقام باعتقال نجلها حازم، واستشهاد نجلها أشرف، وهدم المنزل بالكامل.
تلك الفاجعة التي أضحت بها الشجاعية سوادا لم تثنِ أم أكرم عن مواصلة درب الجهاد والمقاومة، فبعد عشر سنوات قامت طائرات الاحتلال الصهيونية بقصف منزلها خلال حرب 2014 فتحمّلت مرارة الهجرة من “حيّ الشّجاعيّة” ومرارة البعد عن المنزل والصّبر على فقد المأوى الوحيد من أجل الله وفي سبيل رفع رايته، والأمل بعودة نجلها الأسير حازم من سجون الاحتلال حرّا في أقرب وقت.
صاحبة العزيمة القويّة، والشّموخ والكبرياء، الإنسانة التي لطالما ابتسمت وفي عينيها الدّموع؛ دموع الشّوق إلى نجلها الذي يقبع في السّجون، وابتسامة الأمل بحرّيته، وحرّية الأسرى الذين عاشت معهم ومع ذويهم الألم والأمل، لم تعجز يوما أن تنصر قضيّتهم في كلّ محفل، وتجعلها أهمّ الأولويات في كلّ المناسبات.
“أوصيكم بأن تهتمّوا بالأسرى وأن لا تنسوهم من دعواتكم بالفرج القريب” هي تلك الوصيّة التي تختم بها حديثها مع كلّ من تقابلهم، لأنّ الكلام الأخير لا يُنسى؛ فكلماتها باقية ببقاء الأسرى في السّجون، في كلّ يوم تصحو على أمل أن تمسي ونجلها حرّ بين أحضانها، وكذا إذا أمست علّها تكحّل عيونها برؤيته، دون تعبٍ ولا ملل؛ ويشاء القدر أن تصابَ بمرضٍ يفتك بجسدها الذي شاخ كما فلسطين التي شاخت ألما ووجعا بفعل محتلٍّ أصابها وتغلغل في مدنها.
وبعد رحلة علاج وصراعٍ مع المرض، فارقت روحها إلى خالقها وهي تنتظر الحرّية للأسرى، لتنتقل إلى الحرّية الأبديّة في رضوان الله، فيكون الوداع في غزة، والعزاء في سجون الاحتلال دون وداع، ودون القبلة الأخيرة للجسد الذي كان ينتظر أن يقبّل الأحرار، رحلت أمّ أكرم حسنين تاركةً لنا وصيّة “الأسرى والأقصى وفلسطين”، لسان حالها يقول “أكملوا الأمانة من بعدي ولا تخذلوني في قبري”.