مذكرات أسيرواقع السجون

شهداء مع وقف التّنفيذ

كتبت :هيفاء أبو صبيح

 

عندما أريد التّحدث عن أخواتي الأسيرات المريضات تتلعثم الكلمات وتتلخبط الأفكار وتنهمر الدّموع ألما وحزنا لحالهنّ ومآسيهنّ وما يجدنه من مرارة السّجن وويلات المرض والإصابات، وإنّي لأعجز عن إيجاد ما يمكن أن أصف به ما يمرّ عليهنّ من أهوال وما يشعرن به من معاناة وآلام يعجز كلّ من لم يسجن في سجون الاحتلال عن تبيّن مدى فظاعتها، فهنّ يتعاملن مع احتلال لا يكتفي بحرمانهنّ من كلّ شيء بل يسعى جاهدا لتسليط أشدّ العقوبات عليهنّ حتّى يصبح الموت السّريع غاية يصعب الوصول إليها.

ومن الذّكريات المؤلمة ما كانت ترويه لي الأسيرات في أيّامنا بالسّجن عن معاناتهنّ وبخاصّة الأسيرات الجريحات عندما يكنّ صغيرات في السّنّ، ففي عدّة مناسبات وصلت أسيرات لا تقدرن على الحراك -بعد مكوثهنّ أيّاما في “المشافي” الصّهيونيّة رغما عن الاحتلال لخطورة حالتهنّ الصّحية- فكنّ على الكراسي المتحرّكة لا يستطعن الحراك ولا حتّى الالتفات يمينا ولا يسارا فما بالك بقضاء حاجياتهنّ بأنفسهنّ دون مساعدة زميلاتهنّ الاسيرات اللاّتي صرن ممرّضات رغما عنهنّ وبمختلف أعمارهنّ يقمن بالاعتناء بالجريحات والمريضات حتّى أصبحن على خبرة لكثرة تكرار الأمراض والأوجاع والجروح.

وقد روت لي الأسيرة حلوة حمامره(26 عاما) من حوسان قضاء بيت لحم قصّتها ومعاناتها فقالت:”عندما استيقظت ظننت أنّني في مكان أنعم بالرّاحة فقد كنت لا أستطيع فتح عيني جيّدا لأرى ضحكة ميسم ابنتي ووجه أمّي فهما آخر شخصين كنت أذكرهما. وبعد جهد فتحت عيناي فوجدت نفسي محاطة بأعداد كبيرة من جنود الاحتلال، وعندما ظننت أنّني على الأرض نظرت إلى الأعلى فرأيت مصابيح عالية موضوعة في السّقف فأدركت أنّني بالمشفى حينها.”

أخذت نفسا عميقا وهي تحبس الدّموع ثمّ أكملت:”حاولت النّهوض ولكنّي اكتشفت بأنّني مكبّلة اليدين والقدمين وممدّدة على السّرير لا أقوى على الحراك…خذلتني دموعي وخانتني ونزلت أمامهم رغما عنّي…”

ويذكر أنّ حمامره محكومة بخمس سنوات وثمانية أشهر وقد اعتُقلت بعد إصابتها بجروح خطيرة بعدّة عيارات ناريّة بأنحاء مختلفة في جسمها وأجريت لها عدّة عمليّات استئصال أمعاء وكبد وكلى ومازالت تحتاج إلى العلاج والدّواء فترات طويلة.

ولقد كان السّجّان الصّهيوني يستغلّ مرضهنّ وإصاباتهنّ بالضّغط عليهنّ في التّحقيق دون أن تشفع لهنّ حالاتهنّ، بل إنّ “ضعفهنّ” ذلك كان سببا في استثارة رغبة المحقّقين في إذلالهنّ والضّغط عليهنّ بغية انتزاع الاعترافات أو حتّى تلفيقها نظرا لسوء حالتهنّ وضعفهنّ الجسدي وتأثّرهنّ بالأدوية المخدّرة التي يعطونهنّ إيّاها في العمليّات والعلاج حينها.

ولا تقتصر معاناة الأسيرات المريضات على المعاناة في المشافي أو أثناء التّحقيق، فلا يكتفي السّجّان بالتّنكيل بهنّ هناك فقط، بل هو مسلسل متكرّر للانتهاكات والاعتداءات الجسديّة والنّفسيّة. فالاحتلال لا يميّز بين أسيرة مريضة أو سليمة عند نقلهنّبين السّجون والمحاكم، وقد حدث أن ذهبت أسيرات مريضات إلى المحاكم الصّهيونيّة بالبوسطة جالسات على الكراسي المتحرّكة أو مستندات على العكّاز أو رفيقاتهنّ في الأسر. وقد لا يكون أمام الأسيرة المريضة إلاّ أن تسند نفسها بنفسها نفسها في ظلّ إصرار الاحتلال على سياسة التّنكيل وتقييد  الأيدي والأرجل ذهابا وإيّابا.

وممّا يزيد الأمر سوءا طبيعة الجوّ في الزّنازين فهي رطبة باردة جدّا شتاء وحارّة ومكتظّة صيفا إضافة لوجود الحشرات فيها، وهو مايوفّر الظّروف الملائمة لتكاثر الأمراض وانتشارها بسرعة كبيرة، تساهم صعوبة التّعامل مع الأمراض حينها وعدم استجابة الإدارة لمطالب الأسيرات يفاقم الأوضاع سوءا وبسبب التّلوّث غياب التّعقيم تكون كلّ أسيرة مريضة عرضة لزيادة خطورة حالتها وتصبح معرّضة للهلاك في نهاية المطاف إذا لم تحصل على العلاج اللاّزم في الوقت المناسب.

وقد تفاقمت الكثير من الحالات المرضيّة البسيطة بسبب الاهمال الطبي وازدادت أوضاعها سوءا ولا ننسى أيضا سوء التّغذية فالغذاء المقدّم للأسيرات لا يحتوي على المدعّمات البروتينيّة والفيتامينات والمكمّلات الغذائيّة والخضر والفاكهة.

ولازالت حتى اليوم عشر أسيرات جريحات والعشرات من الحالات المرضيّة المختلفة منها ضغط الدّم والسّكر والرّوماتيزم والأعصاب والرّبو والحساسيّة وغيرها من الأمراض المزمنة التي تستوجب التّدخّل العاجل والسّريع قبل تفاقم الحالات وازديادها خطورة والحدّ من انتشار المرض أكثر فأكثر وأيضا يستوجب الضّغط على إدارة السّجون بالسّماح الأدوية وإجراء العمليّات اللاّزمة في الوقت المحدّد فلا نريد مزيدا من قوافل الشهداء ولا نريد شهداء أحياء …

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى