بالورقة والقلمزهراتنا الأسيرات

16 زهرةً في حياة شاتيلا


كتبت: حياة أنور دوابشة


كانت أم علي متوجّهة في زيارة إلى ابنتها وأولادها ستستغرق ثلاث أيّام، حين رنّ هاتفها، بتاريخ 3/4/2016، فوصلها خبر اعتقال ابنتها. بدت الأرض ضيّقة على صدر تلك الأمّ آنذاك، وسقطت مغشيّا عليها من هول الصّدمة، فقد تركت طفلتها منذ لحظاتٍ في البيت، تركت شاتيلا صاحبة الاسم النّادر والعمر العشريني.
في بيتها في كفر قاسم، تجلس أم علي، والدة الأسيرة شاتيلا أبو عيادة، تداري الجدران الفارغة، إلاّ من صورةٍ لابنتها، تتذكّر بمرارة كيف أنّها طلبت منها وصفة عمل معجّنات خاصّة كانت تجهّزها لهم، وكيف أنّها رتّبت المنزل ذلك اليوم، وخرجت لجلب بعض الأغراض. تركت شاتيلا ذلك اليوم اللّحم في الماء، حتى يذوب، وأخبرت شقيقها بأنهّا لن تتأخر وأنّها ستعود لتجهّز له وجبة الطّعام، ومنذ ذلك اليوم لم تعد.
كان خبر اعتقالها ومحاكمها التي كانت تؤجّل كلّ شهرٍ تقريبا، يقتل والدتها، وعائلتها، تلك العائلة التي لم تتلق يوما حقّها حين اعتدى أحد المستوطنين على نجلهم موسى سليمان أبو عيادة، وضربه ضربا شديدا، ولكن وببضع تهمٍ ملفّقة، حكمت طفلتهم الصّغيرة الغضّة حكما جائرا.
لا تعلم أم علي ما يعنيه رقم 16، حين يكون حكم سجن، هي تعلم أنّ هناك 16 وردة قد أزهرت على شجرة الجوري التي زرعتها وابنتها كما أتخيّل، وتعلم أنّ مجموع 8+8=1، لكن 16 سنة في السّجن، لا يستطيع عقلها إليها وصولاً… بتاريخ 14/2/2016 علمت عائلة الأسيرة شاتيلا أنّ النّيابة تطالب بحكمٍ مدّته 16 عاما بحقّها، وتطالب بغرامة ماليّة جائرة، والمحامي يستأنف.
كان ذلك اليوم بالنسبة إلى أمّ علي مصيريّا، أو كجزئيّة من حياتها يعني البدء فيها دخول فصل جديد من الصّراع، تعلم أنّ حكم ابنتها متّفق عليه، والغرامة سيتمّ الاستئناف لأجلها، فمئة ألف شيقل لأسيرة لم تفعل شيئا، كانت صدمة ثانية للعائلة.
بتاريخ 27/2/2016 أقرّت محكمة الاحتلال الحكم النهائي، وبدأت أم علي تجهيز حقائب الزّيارة في أوقاتٍ محدّدة، ترتّب لها بضع قطعٍ من الملابس لعلّهم يسمحون هذه المرّة بدخولها، كتابٌ طلبته، وصورةُ ربما لابن شقيقتها اشتاقت له، وتمضي حاملة أطنانا من رسائل المشتاقين، وتعود برسالة صبرٍ من ابنتها.
حين توشك دموع أمّ علي أن تسقط، تتذكّر أنّ شاتيلا كانت تزاحم الجنود في محكمتها الأخيرة، يحاولون تخبئتها خلفهم، غير أنّ محبتها تتوضّح تدريجيّا، حاملةً خلفها رسائل جَلد، كانت شاتيلا تصرخ وتقول لأمّها أن لا تذرف دمعة واحدة، وأنّ الحكم لن يقتلها، الدموع التي ستراها في عين والدتها ستكون أشدّ وقعا، حين تتذكّر أم علي ذلك تمسح وجهها، وتقول الحمد لله.
بتاريخ 17/3/2017، أي بعد مرور سنتين على اعتقالها، سمح لوالد الأسيرة شاتيلا بزيارتها، لم يكن ليتخيّل أنّ بمقدوره دخول غرف الزّيارة والانتظار خلف الزجاج، ومن ثمّ تركها هناك والعودة إلى البيت خالية من يد طفلته الشّابّة، لكن ذلك حدث.
لا تفلح الروايات في وصف ما حدث خلال السّنتين اللّتين مرّتا ولم يزر فيهما والد الأسيرة ابنته في الأسر، حتّى أنّ إجابته لا تفلح، الحمد لا يفارق الفلسطيني، لكنّ لحظات تجهيز والدتها للحقيبة، ومن ثمّ طلبه منها أن تختزل رائحة ابنته وتعود للبيت سريعا كي تطمئنه ربّما تكفي لوصف وقائع هاتين السّنتين، ربّما، لمن يملك فولتات من الجهد تمكّنه من تخيّل هكذا مشاهد.
هناك في سجن هشارون تجلس شاتيلا، تستذكر حلما بإكمال الدّراسة، فقد كانت تدرس في جامعة القدس المفتوحة، تخصّص علم اجتماع، كانت بصدد التّخرّج، وسلب منها هذا الحلم أيضا.
تمسح أم عليوجهها وتحمد الله كما دائما، لقد جفّت الدّموع منذ سنتين، لا حاجة لتنفيذ وعدها لشاتيلا، فحتّى الدموع التي وعدتها أنّها لن تذرف، لم تعد موجودة، تحجّرت في مكانٍ ما من روحها، خلف زجاج الزّيارة، وعبر معابر الطّريق المؤدّية إلى السّجن، وأمام المجنّدة التي تفتّشها، وحين كانت تودّع زوجها فيطلب منها أن تشتمّ له ابنته وتحتفظ بالرّائحة بأيّ طريقةٍ ممكنة.
تتذكّر أم علي في الطّريق صوب زيارة ابنتها كيف أنّها كانت تعمل في ساعات المساء وتدرس في الجامعة نهارا، حتّى تنهي محطّة الدراسة، وتتفرّغ لعملٍ تساعد به عائلتها، وكيف أنّها لا تنتمي إلى أيّ حزبٍ على خلاف ما لفّقه الاحتلال.
لفّق، هي كلمة كرّرتها أم علي، في مئات المقابلات الصّحفيّة، لقد لفّق لابنتها لائحة اتهّام طويلة، ونسبت لها، وهي ليست بالصّحيحة، لكن الجميع تغاضى عن قول أمّ علي وابنها، لقد حذفت كلمة لفّق من كثيرٍ من المشاهد التي وصفت ابنتها، وجعلت كلمة نفّذت وارتكبت محلّها، وأحيل إليها مجد البطولة، وتهمة وطنٍ بأكمله.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى