الأسرى المحررينشؤوون الأسرى

ذاكرة وطن

كتبت : راوية الرنتيسي

 

آه كم كانوا كثرا وكنتَ أنتَ فيما تحملهُ أنّاتُ هذا الوطن على كثرتهم وحدك …
يورث الأسير أيًّا كان على اختلاف جنسه وسنّه .. ومدّة حكمه طالت أم قصرت .. مجدا بالصّبر مرصّعًا ..بين الجدران وخلف القضبان .. ضياء لا ينكسر يسطّر تاريخا.. إنّ الأسير ليس بالملفّ نغلقه .. نلغيه ثمّ نحييه على صفاء نفس فجأة .. وهو ليس برقم .. إنّه إنسان، والإنسان في حدّ ذاته قضيّة.. هي ذاكرتنا هنا للنّسيان .. لكنّ الوطن أبدا لا يفعل ..
ثورته تلاحقكم تسائلكم .. أيا أمّة لا خير فيها نسيت عويضة داخل سجونها .. خلف جدار ذاكرة الوطن .. تركت روحك ندبا مدميّة .. على جبين ذاك الشّعب وتلك القضيّة .. قصّة أسير من ربع شعب أمضى سنين عمره بين المعتقلات ومراكز التّحقيق ..
الأسير المحرّر ضمن المحرّرين في صفقة وفاء الأحرار عويضة كلّاب لمن لا يعرفه بشاعة مئة سنة من الإحتلال تتلخّص في إنسان .. ذاك الثّائر الغزاوي الذي ينحدر من منطقة الشّيخ رضوان لطالما عرف باندفاعه وصلابته في مواجهة الاحتلال .. ففي الوقت الذي كان يختار هذا الشّعب الرّافض التّصدي بالتّخفّي كان عويضة بصدره العاري يقول لهم هاأنذا .. في وضح النهار يتجلّى بقنابله أمام جبناء صهيون ..
زالت شمس عويضة وظلّه مازال .. تمّ اعتقاله عام 1988 على خلفيّة عمليّة عسكريّة نفّذها أدّت إلى مقتل ستّة جنود فحكم عليه بأربع مؤبّدات .. يذكر لحظة الاعتقال ورحلة العذاب في الظّلام حينما رُمي بين وحوش ضاريات ما خلقت بشرا كلّا .. وأغلق خلفه باب الجحيم الذي توعّده به ذاك الجندي القادم ربّما من بلاد ما وراء المتوسّط .. صوت السّلاسل ، صرير أبواب الزّنازين .. صراخ المحقّق .. الإرهاق .. أقسى أنواع التّعذيب والإهانة والضّغط النفسي، ولكنّه لمّ ينل منه.. ذاك القلب الذي حوى حبّ القضيّة والوطن حدّ التّعب هيهات أن تنكسر له هامة.

أمضى ذاك الجسد الهزيل عشرين سنة في زنازين العزل الانفرادي  حيث العتمة والهواء القليل وجدران رطبة بصبر أسير قد لا نعرفه ، متآكلة بدورها أكلت من أعمار المجاهدين الصّادقين الكثير ، منهم من قضى شهيدا ومنهم من غاب عن الخاطر وشعبه ما غاب، أماكن لا يطرق فيها أحد لك سمع، تهدف كلها لتحطيم الأسير وإخراج جيل يشكل عبئا على هذه القضيّة، جيل يعجز عن حمل همّها والدّفاع عنها، أورثته هاته القبور التي لا يعرفها إلاّ من أمضى زهرة شبابه فيها بعد أن تدهورت حالته مرضا نفسيّا يرافقه حتّى بعد تحرّره، بعد الشوق للقاء الأهل والأحبة  فقد عويضة كلّاب أهليّته لدى سجون الإحتلال الغاصب، لدرجة أنّه رفض في إحدى المرّات زيارة ذويه له فقط لأنّه لم يعد يتعرّف على أيّ شخص من ماضيه وحاضره. وأي قهر ذاك أن تجد الصعوبة في التعرف على فلذة كبدك بعد سنين الاشتياق الطوال؟ يمضي معظم وقته يخفي وجهه بيديه .. مترقّبا مرتعبا .. ورغم كلّ ذاك حافظ على ذاته من النّسيان، إنّه ذاك الغزاوي الذي عاهد ربّه على النّضال وعدم الاستسلام ..
عويضة صاحب الصّبر الجميل .. عويضة الوطن .. عويضةُ فلسطين  وآلاف الشّهداء والقدس ما هو إلاّ نموذج صغير عن مأساة الأسير داخل سجون الاحتلال .. هذا الأخير الذي لا يعامل الأسرى كمدافعين عن حقوقهم ولا يرى في ذلك شرعيّة ولا حتّى في تواجده احتلالا وأن أيّ مقاومة ورفض له ردّة فعل طبيعيّة .. رغبة في الحريّة .. لا أدري أيّ ظلام أهدانيه عويضة وأيّ ضياء كلّما تذكّرته حملني لأمضي أكثر .. أيّ صبر أيّ ألم وأي أمل ذاك ..
ما أردتُ من كلّ هذا فقط أن لا ننسى الأسرى، فقصّة أسير منذ 1967 هي ذاتها بوحشيّة أكبر تتكرّر كلّ يوم هم ليسوا بأحداث معركة يحدّدها حيز زماني ومكاني، الأسرى مقاومة دون هدنة مقاومة لا تنضب لا تنتهي  .. كونوا معهم في قضاياهم في قصصهم فيما أورثه حبّ الوطن لهم .. اكتبوا عنهم في الجدران والجرائد وعن نضالهم .. سمّوا أبناءكم بأسمائهم .. أخبروا الغريب العابر عن ذاك الأسير الذي أفنى شبابه في السّجون وما فنى .. أنقذوا الأسرى ..

فصمتكم يزيد من غربتهم.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى