
كتب قتيبة قاسم
جاءته مهرولةً، وما إن فُتِحَ الباب حتّى ما عادت الأرض تحمل أقدامها وهي تدنو من والدها… قبل لحظات كانت تلامس الزجاج الفاصل بينهما، ولكنّها الآن وبعد عناء وتصاريح ومحاولات طويلة حصلت على ترخيص من الاحتلال لـ”مريم” لتقبّل والدها دون زجاج ، أن تحضنه وكأنّه بلا قيد …
كان “أميرها” يحتفظ بصورتها التي لم تفارقه منذ أن أدخلها عند أوّل زيارة سُمِحَ له فيها بذلك، كان يُثبّتها فوق رأسه على “البرش” تارةً ويلصقها على الحائط تارة أخرى وأحيانا يحملها بين يديه لعلّه يستحضر تلك الذّكريات القصيرة التي جمعته بها. إنّه يرى أطفال غزّة مضرّجين بدمائهم خلف تلك الصّورة وأبعد منها بكثير، إذ أنّه لم يستطع أن يظلّ مكتوف الأيدي إبّان مجزرة الشجاعيّة في الحرب الأخيرة على القطاع عام 2014، ولم تسمح له إنسانيّته بأن يتخلّى عن المستصرخين تحت ضربات العدوّ، فاستلّ ما استطاع الوصول إليه وذهب إلى حيث اللاّعودة، فأصاب من أصاب حتّى تمكّن القيد من معصمه.
إنّه يرى مريم في كلّ لحظة كما لم يرها من قبل، يراها في منامه وصحوه، لا تفارق مخيّلته، وأنا لا تفارق مخيلتي تلك المشاعر التي حملتها لوالدها يوم الزّيارة، كانت أقوى من كلّ الحاضرين في الزّيارة، كانت وحدها من تبتسم. أمّا نحن فتدارينا خلف الحكاية الطّويلة من الوجع، نختبئ خلف دموعنا … وهي تحاول يائسةً أن يعطيها موعدا للعودة إلى البيت، هي لا تدري أنّها ستظلّ تعيد على مسمعه هذا السّؤال عاما تلو الآخر وزيارةً تلو الأخرى، فمتى يا ترى ستجد “مريم” الجواب؟
كانت مريم تأخذ قسطا من الرّاحة صبيحة ذلك اليوم، يوم مسح والدها بيديه على جبينها وأسدل على وجهها الغطاء وهو يرى في أهداب عيونها دمعةً نزفت على وجنتي طفلةٍ في “الشجاعيّة “، وكانت تطرق في أذنيه صرخة أمّ اخترقت مسمعه مع همسات زوجته تسأله عن العزم والمسير، فلا يجيب، هادئا يحاول إخماد نار الغضب في دواخله، يُطفئ ببسمةٍ غائرةٍ جراحا تكبر مع كلّ قذيفة وصاروخ ينهالان على العزّل في القطاع … جدّ السير دونما التفاتٍ للوراء ، وفي مخيلته تتهيّأ الصّور وتخترق أذنيه تلك الآهات، واصل المسير وفي آخر الطّريق كانت تلوح النّهايات، لم تزده أيّ منها إلاّ إصرارا وتوقّدا فالنّار تضطرم في قلبه…لم تكن الطّريق طويلة، فالمسافات يختصرها الخطو الواثق ولهفة المشتاق للثّأر، وابتدأت الحكاية حين أراد لها صاحبها النّهاية … أسيرا.
وحلّ الظلام زائرا ثقيلاً، وجاء الألم على هيئة ضيفٍ يشدّ الخناق على الطّفلة التي ما عاد لها والدها، وما عاد من يمسح عن وجنتيها الدّمع حين ينهال في الليالي المظلمات. تفتقد لمسة الأب الحاني فأراحوا قلبها بصورةٍ للوالد “المسافر” وأراح “المسافر” قلبه بصورةٍ تمحو عن كاهليه وعثاء السّفر وكآبة المنظر. يمتّع ناظريه بنور وجهها كلّ حين، يصول ويجول بصورها في ساحة القسم يحدّث عنها ويرافقها بعد أن يطوي صفحة البعاد، ينتظر المساء وعتمة الليل ليحادثها ويناجيها ويطبع على جبهتها قبلةً قبل النّوم بانتظار الزّيارة القادمة أو بانتظار عناق قادم حين الرّجوع إلى ربوع الوطن.
“أمير لطفي” من مخيم الدهيشة في بيت لحم، أحد الذين عايشتهم في المعتقل عاما كاملاً ، لا يزال ينتظر الفرج بعد ثلاثة أعوام ولا يزال ينتظر كلّ زيارة قادمة ليحظى في واحدةٍ منها -إن حالفه الحظ- بمعانقة مريم عناقا دون حجاب ودون زجاج ودون قيود، في ما ينتظر المئات من أبناء الأسرى أن يحظى كل واحدٍ منهم بتلك الفرصة التي لا تتكرّر كثيرا، في انتظار لحظة العناق الأبدي دون شرط وقيد مع بزوغ فجر الحرّيّة، ويسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا ..