
كتب : وليد الهدولي
يجدر بنا بداية أن نعاين جيّدا صنوف العذاب التي طالت ريعان شباب أسرى شاخوا في السّجن، وقضوا فيها عدّة عقود. وهذه لا يجدر بنا أن نمرّ بها مرور الكرام إذ أنّ يوما في السّجن كألف ممّا نعدّ خارجه.
أسرانا وأسيراتنا في مواجهة تدمي القلوب والأرواح على مدار الأربع وعشرين ساعة، ظهورهم مكشوفة أمام سياط السّجّان، يفاجئهم بلسعها في أيّة لحظة تتحرّك فيها ساديّته، يأتيهم التّفتيش في الهزع الأخير من اللّيل كأنّه الموت ينقضّ على أرواحهم، يجرّب أدوية صنّاع أدويتهم على الأسرى المرضى كأنّهم مختبر تجارب، يلقي في عزله قامات شامخة من أبطال فلسطين، يلقي بظلامه القاتل على أرواح أسيراتنا النّضرة دونما لحظة رحمة، أطفالنا يرتعبون من خشخشة مفاتيح زنازينهم، يترقّبون موتا يأتيهم من كلّ مكان. السّجون أصبحت أقفاصا وزنازين وبوسطات الموت المحمّلة بأعزّ الناس وزنازين القهر، وعازفة الموت مدفن الأحياء سجن الرّملة حيث انتشار المرض والتّدريب على التّعايش معه بعد تبدّد أمل الشّفاء في غيومهم الملبّدة.
وفي يوم الاسير تكثر الوقفات والكلمات وتلتهب المشاعر ويُصدح بالشّعارات في المسيرات والاعتصامات، حراك موسمي طيّب يدلّ على أنّ شعبنا لم ينس أسراه وبقي الأسير الفلسطيني هو القلب الدامي ومركز العصب الحسّاس للشّعب الفلسطيني، وارتباط الأسرى بالمسرى، فلهذا المسرى مكانة عالية في نفوس شعبنا وأمّتنا، كذلك مكانة هذا الإنسان الفلسطيني والعربي الذي فدا القدس بروحه دفعة واحدة فكان شهيدا أو يفدي القدس بصبر جميل في السّجون العاتية بدفع روحه على رحى أيّام وشهور وسنين طاحنة.
هنا في فلسطين أسيرنا إنسان من طراز فريد، يتقدّم صفوف أمّة خارت قواها رافضا الوهن والضّعف، يمتشق إرادته رغم تهاوي الإرادات واختبائها خلف فرديّة ضيّقة، يتمرّد على الأنا فيصبح أمّة بمفرده، يناطح المخرز بكفّ قلبه دون أن يأبه للدّماء النّازفة.
لكلّ هذا يجب أن نكون أمينين وصادقين في إيصال رسالتهم بكلّ ما يريدون خاصّة نحن الذين يقال عنّا أنّنا أسرى محرّرين، لذلك لا بدّ أوّلا وسريعا وعاجلا الانتقال من دائرة القول والمناشدة بخصوص المتابعة القانونيّة الدّوليّة الى دائرة الفعل والبدء فورا بمتابعة قانونيّة جادّة بخصوص كلّ الاختراقات التي يمارسها الاحتلال بحقّ أسرانا وبكلّ الاستحقاقات التي سلبت منهم، ومنها تطبيق قوانين جنيف بخصوص الأسرى بشكل عام والملاحقة القانونيّة لكلّ المتسبّبين في استشهاد الأسرى وقتلهم بالإهمال الطّبي المتعمّد ومتابعة ملف الاعتقال الإداري وملفّ الأطفال الأسرى .. وهذا يتطلّب عمل مؤسّسة قانونيّة متخصّصة.. والملاحظ على السّاحة الفلسطينيّة أنّ المطلوب منه أن يعمل ويتحرّك يقف عند حدود المناشدة.. الناس يناشدونه وهو يناشد غيره ويبقى الأمر في حدود المناشدة عند كل مناسبة مع أقوى عبارات الشّجب والاستنكار.. لقد بات هذا ممجوجا ولا يفي حتّى بأغراض الاستهلاك المحلية لأنّ الناّس سئمتها وسئمت كلّ من يردّدها.
إذا اردت أن أكون بالفعل أمينا لرسالتهم فإني إعود للذاكرة حيث مكتبة عسقلان واللقاء اليومي مع قادة الحركة الأسيرة وقد كان محور كلامهم: أين الفصائل وماذا فعلت من أجل تحريرنا ولماذا ما بين التبادل والتبادل سنوات طويلة ولماذا لا يبذل الجميع كلّ ما بوسعه في هذا الطريق؟؟ بالطبع لا ننكر ما حصل على هذا الصعيد من إنجاز عظيم فيما بعد ولكن هل هذا كاف ويغني عن كلّ الفصائل؟
أمّا بخصوص من أعيد اعتقالهم من صفقة وفاء الأحرار فأين الضّغط الفاعل والمستمرّ على الدّولة التي رعت الاتّفاق، لماذا الحديث على استحياء وبأدب جمّ زائد عن اللّزوم وإلى متى؟؟ والكلّ يعرف أنّ ما فعلته دولة الاحتلال بهذا الخصوص هو نقض للاتّفاق وضرب بعرض الحائط لمن رعى الاتفاق ولكلّ أطرافه.. أدرك الظّروف المتغيّرة ولكن لا بدّ من حراك دائم وتوفير الضّغط الذي يؤدّي إلى المطلوب وهو إطلاق سراحهم والتّراجع عن هذا الابتزاز السّياسي اللّئيم.
يجب أن تتحوّل قضية الأسرى واختراقات الصّهاينة للاتّفاقيّات الدّوليّة (نفي المعتقل بعيدا عن مناطق سكناه، التعذيب، العزل، المحاكم، اعتقال الأطفال، اختراقات بخصوص المرأة، الاعتقال الإداري، الأسرى المرضى، اعتقال النّوّاب، … إلخ) إلى نار جهنّم عليهم في جبهة السّاحة الدّوليّة. ماذا تراهم يفعلون لو كان العكس؟ كيف تحوّل شاليط إلى قضيّة عالميّة وكيف تراهم يطرحون قضيّة جنودهم المفقودين في غزّة؟ يجب أن نفتح جبهة العمل على السّاحة الدّوليّة على مصراعيها وما يرافق ذلك من عمل إعلامي محترف بمخاطبة العالم أجمع..
ولا بدّ كذلك من أن نتطوّر في وسائل التوعية بحيث تصبح لقضيّة الأسرى حضور دائم في ثقافة المجتمع ولهذا فقد شهدنا تطوّرا ملحوظا بهذا الخصوص إذ أخرجت أعمال دراميّة ومسرحيّة وأفلام وثائقيّة ولم تبق التّوعية مقتصرة على النّشرات والكلمات والتّصريحات والبيانات التي ملّها النّاس. وهنا أيضا لا بدّ من نقلة نوعيّة جديدة بدخول مثل هذه الأعمال المستوى الفني الدّولي من خلال المنافسة الفنّية العالية التي تشقّ طريقها بقوّة فنّها لا باستدرار العواطف المتضامنة فحسب …