بالورقة والقلمزهراتنا الأسيرات

نسرين أبو كميل

هيفاء أبوصبيح

 

كانت حياتها عادية تتشابه أيّامها فلا جديد يحكى ولا غريب يوثّق،  إلى أن حلّ يوم 18/10/2015. ففي ذلك اليوم تمّ الاتّصال بها وهي التي عانت وتعبت من الذّهاب والإيّاب حتّى تحصل على تصاريح لزيارة الدّاخل لأولادها وزوجها فهي من عروس الشّمال حيفا. لقد اتّصلت بها المخابرات الصّهيونيّة  وأخبرتها أن تأتي إلى معبر إيرز لتوقّع بعض الأوراق اللاّزمة للتّصاريح.

خرجت نسرين فرحة يدفعها الأمل وتركت خلفها أطفالها فارس وفراس وأميرة وداليا وملك وندين وأصغرهم الرّضيع أحمد وعمره سبع شهور. ولكنّ الأمل سرعان ما انطفأ عندما تمّ احتجازها من قبل الجنود على الحاجز وتحويلها إلى التّحقيق في المجدل دون أن تكون لها إجابات عمّا يحصل وكيف ولماذا؟

استمرّ التّحقيق أيّام طويلة تعدّت الخمس وأربعين يوما تعرّضت فيها إلى الشّتم والسّبّ والضّرب بعقب البندقيّة على صدرها ممّا أحدث كدمات وآثارا حتى اليوم، كما تعرّضت إلى الإهانة والشّبح..كان تحقيقا غاية في القسوة، ولكن ليس بقسوة ما يخفيه المستقبل.
استمرّت نسرين في الحياة بالرّغم من سلبها حرّيتها، وتنقّلت بالسّجون من هشارون في نتانيا الوسط  إلى الرّملة ومن ثمّ إلى أقصى الشّمال بحيفا في سجن الدامون، وتمّ عرضها على المحاكم عدّة مرّات، فعانت من مشقّة التّنقّل بالبوسطة كثيرا وفي كلّ فصول السّنه، وذاقت ويلات الحرّ وشدّة البرد وتعمّد السّجّان في كلّ مرّة تشغيل المكيّف البارد في الشّتاء والسّاخن في الحرّ،  لتزداد المعاناة ويصعب السّفر وتزداد الكيلومترات بآلاف الأميال، وكانت كلّ محاكمها تقوم على التّأجيل ..
ولاحقا تراوح طلب الحكم من 6 إلى 11 عاما من بدايات المحاكم الى آخرها، وتمّ عرض عدّة صفقات ظالكة عليها تمثّلت الأخيرة منها في سحب الهويّة منها لتخفيف الحكم والإفراج عنها. حينها فكّرت نسرين “هي  كلّها أرضي هنا بحيفا وبغزّة، وأطفالي وزوجي هم هويّتي، لا يهمّ سحب البطاقة منّي.” وظنّت أنّ الحكم سيخفّف عنها وتعود لمن تركته رضيعا وترعرع من غيرها وكبر على صورتها في برواز.

وفي يوم 19/2/2018 ناداها مدير القسم في الدّامون، وقال لها جهّزي ملابسك وأغراضك جميعها واحمليها معك إلى المحكمة غدا لأنّك ستذهبين إلى بيتك. ولك أن تتخيّل لذّة الشعور وهي توضّب أغراضها ودموع الفرح تغسل وجهها الضّحوك وصوتها يتحشرج بالبكاء شوقا إلى الحرّيّة، إلى بيتها وزوجها وأطفالها. حملت أمتعتها وخرجت يوم الثّلاثاء من الدّامون في السّاعة التّاسعة صباحا لتصل إلي هشارون بعد رحلة هي الأقصر للمرّة الأولى في تاريخ المحاكم، فإحساس الفرحة أنساها مشقّة الرّحلة. وصلت في السّاعة الرّابعة عصرا لتمكث ليلة ثمّ تذهب في الصّباح إلى محكمة بئر السّبع، ليلتها كانت الأطول: فيها تاريخ الحياة بأكمله، فيها الحلم الذي سينتهي بالنّهايه الأسعد على وجه الكون، بلقائها بالأحبّة.
فكّرت حالمة: كم ستطول رحلتي الى إيرز (المعبر الذي يؤدّي إلى غزّة من الضفّة)؟ آه هم سيأخذونني مباشرة بعد المحكمة إلى الحاجز لأنّ أغراضي كلّها معي، يا الله …”
وتنزل الدموع وحدها على وسادتها فرحا وتمهيدا للّقاء، وواصلت رسم ساعاتها القادمة حتّى موعد خروجها في الصّباح وذهابها إلى المحكمة.
وفي السّاعة الثّانية عشرة والرّبع تقريبا، انطلقت محاكمتها وبدأت المرافعات  وهي تسمع وكلّها أمل بسماع النّطق بالحرّيّة والذّهاب إلى أحضان أبنائها. ولكنّ الاحتلال الظّالم أصدر حكمه الصّادم بسلبها  حرّيّتها وأحلامها لستّ سنوات… هزّت رأسها وكأنّها لم تسمع، كان حكما صاعقا فوق آذانها أدخلها عالما آخر، فلم تعد تسمع أو ترى شيئا ممّا يجري حولها.

قالت في نفسها “كلاّ إنّهم يمزحون، فأنا أحضرت أغراضي… وكيف يطلب منّي مدير القسم حملها معي؟ وكيف أخبرني أنّي لن أعود إلى السّجن؟! لا لا، أنا لم أسمع جيّدا…”
وظلّت غير مصدّقة الحكم الجائر بحقّها، إنّه خبث الاحتلال الذي تلاعب بأعصابها وحياتها، فهي ابنة السّتّ وأربعين عاما والمريضة بالسّكر والضّغط، ولكنّ ذلك السّرطان اللّعين لا يكترث لشيء في سبيل تعذيبها واغتيال روحها…إنّها طريقته البشعة في مواجهة إرادة الحياة المتجذّرة في كلّ فرد من أفراد الشّعب الفلسطيني كافّة.

 


اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى