
كتب : قتيبة قاسم
شكّلت الحركة الأسيرة رافدا أساسيّا في ساحة النّضال الفلسطيني ولا تزال تسطّر تضحياتها في صورة تتجلّى فيها القضيّة الفلسطينيّة بأبهى صورها، وتخرج من بوتقة الظّلم والحصار وتضييق الخناق عليها لتكون منارةً ونجما يضيء عتم الظّلم المخيّم على ليل الوطن وترسم معانيها بلوحة صمود وبشارة حقّ تنتزعه من بين أنياب المحتلّ. ولقد كانت الحركة الأسيرة على مرّ التّاريخ مدرسةً وجامعةً عكفت على مدار الوقت على تخريج جيل لم يعرف في لحظة من اللّحظات أن ينكسر أو أن يرضخ للهدف الصّهيوني من وراء سجنه وتركه في خلوته وجعله في عزلة دائمة عن المجتمع وعن العالم بأسره.
ومن بين سياسات الاحتلال العديدة التي بدأت مع اعتقال أوّل أسير فلسطيني كانت محاولات إبعاد الأسير عن كلّ مناحي الحياة الثّقافية والقضاء على أيّ معلم من معالم التّنوير والتّثقيف والنّهوض بالواقع العلمي والأكاديمي وحتّى الفكري، فتنوّعت سبل تحقيق هذا الهدف الذي تعدّدت فيه الوسائل والأدوات وجنّد له الاحتلال إمكاناته، فكانت البدايات منذ أن وطئ الاحتلال وبسجونه أرضنا المحتلّة ومنع الأسرى من الحصول على الكتاب أو القلم والدّفتر وكذلك منعهم من قراءة الصّحف، وكانت إدارة السّجون تمارس العقاب الفردي والجماعي إذا ما ضبطت قلما أو ورقة بحوزة أحدهم ..
لقد سعى الاحتلال وما زال إلى سياسة الإفراغ الفكري والثّقافي تارةً بطرق مختلفة، ولكنّ سيلا من التّضحيات تكلّل ببعض الإنجازات مثل السّماح التّدريجي بإدخال الكتب والرّوايات التي تكون في معظمها فارغة المضمون أو تلك التي لا تبني فكرا ولا تنمّي عقلاً والتي قد تحقّق أهدافا وفق هوى إدارة السّجن وما تراه لا يخدم الحالة الوطنيّة بشيء، ولا تزال إدارة السّجون حتى هذا اليوم تمارس كلّ صنوف العقاب لإفراغ الأسرى في محاولات يائسة تغلّب عليها الأسرى بصمودهم وتضحياتهم التي عمّدت بالدماء يوما بعد آخر، في مدّ وجزر لا يتوقّفان.
لقد تقابَلَتْ في زنازين السّجن إرادتان وسيفان يأبيان إلاّ أن يواصلا الطّريق بالتّضادّ، عنجهيّة السّجّان الذي يمعن في كسر إرادة السّجين ومنعه من تحقيق أدنى ما للإنسان من حقوق وحتّى تلك التي تكفلها اتّفاقيات جنيف وحقوق الإنسان مجتمعة، وتشديد الحصار على المعتقل الفلسطيني من جهة وإرادة الإنسان الأسير الذي يأبى إلاّ أن ينال حرّيته وحقوقه كاملة غير منقوصة، فيسعى بكامل قوّته لتحقيق الإنجاز وإثبات وجوده وحقّه رغم كلّ العقبات التي تسعى إدارة السّجون لوضعها في الطّريق …
والحراك والحالة الثّقافية هما جزء لا يتجزّأ من عمليّة تقدّم المجتمع الأسير الذي يشغل حيّزا مهمّا في ساحة النّضال الشّعبي الوطني، وهي التي تعبّر عن حالته وصحوته ومدى انتصاره وتفوّقه على السّجّان، بحيث تصنع فارقا يحسّن الحياة وينهض بالواقع المراد منه الإمعان في الهبوط، وكذلك فهي محطّة للاستفادة من تجارب الآخرين ونقلها وتبادلها وتنمية المواهب، والثّقافة كما هو معروف يكتسبها الإنسان من خلال عمليّة التّنشئة الاجتماعيّة والسّياسيّة التى تقوم بها الأسرة والمدرسة والجامعة والحزب والنّقابة والمؤسّسات بأنواعها، وتصل إلى السّجن الذي يجمع كلّ تلك العوامل في بيئة مختلفة مختلطة، وهي التي تعكس مدى نجاعة الاحتلال في كبح جماح الثّورة وبريقها والخطّ المتقدّم فيها أو فشله في ذلك إذا ما أردنا الولوج إلى إنتاجات الأسرى أو المخرجات التي تعتبر نتاجا يوميّا يراكمه الأسرى فرادى وجماعات وأحزاب، تلك التي تعكس مستقبلاً حال المجتمع بأسره.
لقد أسهب الباحثون في مجال الأسرى في وصف تلك الحالة الثّقافيّة، ومنهم من وثّق تجربة الحركة الأسيرة بناءً على الجانب الثّقافي فيها باعتباره العنصر الأكثر أهمّية، فتراوحت المراحل من القمع والنّضال والتّمرّد وصولاً إلى الإزدهار وثمّ المراوحة مؤخّرا بين هذه وتلك باعتبارها مرحلة تذبذب غير واضحة معالمها بالكامل، ترجح الكفّة فيها لانتصارات مرحليّة وموضعية للطّرف الذي يواجه الإعصار وحيدا في ظلمة الزّنازين.
كما وانعكست الحالة السّياسيّة في الخارج بشكل كبير على كثير من ملامح تلك الحالة في السّجون، فالمواقف الصّهيونية المتصلّبة الدّائمة كانت تعطي غطاءها المتواصل لآلة القمع بالإمعان في إذلال الأسرى وسلبهم حقوقهم، والانتقام منهم بكلّ الوسائل وانتزاع حقوقهم بعد أن حصدوا ثمارها بالإضرابات العصيبة والدّماء، وجعلت إدارات السّجون من المعتقلات ساحة حرب توقد نارها متى شاءت، وتجعل من الأسرى رهائن سياساتها التي لا تتوقّف، فأوقفت التّعليم في الجامعات وأوقفت امتحانات الثّانويّة العامّة، وحددت عددا ضئيلاً من الكتب لكلّ أسير على أن يتمّ فحصها قبل الدّخول وتقليص إمكانيّة إدخالها بشكل كبير، وأمعنت وهي تلاحق المكتبات داخل السّجون وتسرق مجهودات الأسرى الثّقافيّة وكتاباتهم ومؤلّفاتهم، وتمنع وصول الصّحف إليهم، وتحدّد محطّات تلفزيونيّة باتّجاه معيّن ضيّق مضادّ، إجراءات ترتفع وتيرتها تارة وتخبو تارةً أخرى، يتصدّى لها الأسرى فينجحون حينا ويخفقون أحيانا، غير أنّ الإصرار على مواصلة التّحدّي لا يزال قائما .. فتراهم يجدّدون ما تمزّق من الكتب، ويربطون الأسلاك إن توافرت من مذياع قديم من شبّاك إلى آخر ليستمعوا إلى برنامج ثقافي أو وسيلة إعلاميّة تبقيهم على تواصل مع العالم، يبدعون في تخريج حفظة القرآن ومناقشة الكتب العلميّة، ويفتتحون الدّورات التّدريبيّة في المجالات الثّقافية المختلفة، وينهلون من علوم ومعارف زملائهم من حملة الشّهادات العليا، يتعلّمون اللّغات ويتقنونها في أوقات قياسيّة … والكثير من تلك الملامح التي قد يعرفها من يخوض غمار تلك المواجهة الباردة.
لقد عمد الأسرى إلى التّكيّف مع كلّ الظّروف التي أحاطت بالحالة الثّقافية ووجدوا من الوسائل ما يمكّنهم من البقاء على تلك الوتيرة من التّطلّع للنّهوض بواقعهم قدر الإمكان، فعزّزوا جوانب القوّة في وحدتهم، فكانت قدرة الأحزاب على ضبط العناصر وتوجيههم مدخلاً لإلزام الكلّ تحت بوتقة البرامج الثّقافيّة التي تُضبط وتنظّم وفقا لمستويات الأسرى ومؤهّلاتهم واحتياجاتهم، ببرامج ثقافيّة متقدّمة تبني رغم معاول الهدم الصّهيونية، وجلسات ثقافيّة طوعيّة منوّعة، ومطالعات ومواكبات متواصلة وسخّرت الحركة الأسيرة إمكاناتها وقدراتها لدعم الحالة الثّقافية وتطويرها دون كلل، وفتحت الباب لإنتاجات ثقافيّة خارج أسوار السّجن، فكان الكتّاب والمؤلّفون وكانت المؤلّفات تروي حكاية مجتمع يواصل طقوس نضاله خلف القضبان بهمّة لا تفتر ..
وتبقى نار المواجهة مشتعلة، بكلمةٍ وفكرٍ ولحظة تصميم على مواصلة الولوج إلى الأهداف المنشودة التي أراد السّجّان أن يضع لها حدّا بزنزانته، ويواصل الأسرى إمداد المجتمع بالكثير من نتاج تجاربهم، وخلاصة الأوقات التي تحوّل ساحة السّجن إلى مقاعد دراسيّة تتجاوز الزّمان والمكان وعنجهيّة السّجّان.