
كتب : مروان أبو فارة
يشكّل الأسر محطّة مهمّة لتكوين الوعي الوطني العامّ في حياة الأسير الفلسطيني حيث يكون هناك المجال الواسع والرّحب لإعادة صياغة الوعي المتعلّق بالقضيّة وما طرأ عليها من تطوّرات لا يمكن مناقشتها أو بحث تداعياتها في الخارج لدواع عدّة، كانت قديما تتعلّق بطبيعة العمل الوطني الثّوري الأمني السّرّي، ومن ثمّ تحوّلت في العقد الأخير إلى حالة الانقسام التي تعني الإقصاء بحرفيّته الكاملة وعلى عواهنه، ولا يمكن الحديث عن الأمر في حياة الأسير دون الفصل بين مرحلتين مهمّتين في حياة الحركة الأسيرة، مرحلة ما قبل الانقسام والمرحلة التي تليها.
ما قبل الانقسام وانقلاب الخاسرين في الانتخابات على الحكومة الشرعيّة حينها، كانت أقسام الأسرى عبارة عن مزيج من كلّ الفصائل الفلسطينيّة ممّا يعني أنّ قائمة المناسبات الوطنيّة كانت ملأى ومكتظّة وتشمل بنسبة عالية كلّ المناسبات والمحطّات التّاريخيّة المهمّة في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، وكان الأمر حينها يبدأ قبل المناسبة بأسبوع حيث جرت العادة أن يتمّ البدء بنشاط رياضي وثقافي يشمل الكلّ ويكون يوم الختام هو يوم الاحتفال بالمناسبة نفسها، ويتخلّل أسبوع الفعاليّة نشرات تعريفيّة متعلّقة بلبّ المناسبة وتداعياتها وما قيل عنها، فمثلا لنفرض أنّ المناسبة المتحدّث عنها يوم الأسير الفلسطيني في السّابع عشر من نيسان، تبدأ الفعاليات في العاشر من نيسان، حيث يكون هناك الدّوري الرّياضي لكلّ الأسرى بدءا من كرة السّلّة وكرة الطّاولة والشّطرنج ومن ثمّ البطولات الفرديّة المتعلّقة بألعاب القوى واللّياقة، ويكون هناك نشاط ثقافي يومي في كلّ غرفة للأسرى حيث تجرى المسابقات والأمسيات فيما يتعلّق بالمناسبة فقط، وفي ختام الأسبوع تكون هناك احتفاليّة ختاميّة في نفس تاريخ المناسبة ويتخلّل الحفل إلقاء كلمات لكلّ فصيل وتوزيع الجوائز على الفائزين في مسابقات الفعاليّة. لقد كانت تلك المرحلة من أهمّ المراحل التي تشكّل الوعي الثّقافي الوطني عند الأسرى ككلّ، فأنت تتحدّث عن أسير ذو اطّلاع على المحطّات التّاريخيّة المفصليّة المهمّة في تاريخ قضيّته ومن وجهة نظر الفصيل نفسه؛ أي أنّ الأسير يأخذ بداية رواية من تخصّه المناسبة وفي المناقشات الدّاخليّة يكون تمحيص الحدث من ناحية الأيديولوجيا الخاصّة بفصيله.
يمكن القول أنّ تلك المرحلة كانت آخر أيّام الوحدة الوطنيّة بصورتها الفعليّة، حيث كنت-بصورة ما- حريصا على المشاركة والسّماع من الآخر كبُر فصيله أو صغُر، وكان للمناسبات رونقها الخاصّ الذي يجعلك مهتمّا بكلّ تفاصيلها لتقف على الصّورة الكاملة وتشكّل وعيك الوطني بصورة محصّنة ممّا يجعل الآخر شريكا له أهميّته وموقعه.
ثمّ كان أن حدثت انتخابات عام 2006 التي فازت فيها الحركة الإسلاميّة فحدثت حالة الرّفض عند الخاسرين وتطوّر هذا الرّفض والإنكار إلى انقلاب من قبلهم على نتائج الانتخابات، وباعتبار أنّ الأسرى جزء أصيل ومهمّ جدّا من مكوّنات الشّعب الفلسطيني فإن أيّ حدث يمسّ الشعب ومكوّناته ينعكس بالضّرورة على الأسرى، وهكذا تمّ الفصل بين الأسرى في أقسام منفردة حيث تمّ الفصل بين الفصيلين الرّئيسين في كلّ السّجون مع الاستثناءات القليلة التي تتعلّق بطبيعة الأسرى في مواقع محدّدة.
وكما كلّ الواقع الفلسطيني فقد كانت نتيجة الانقسام شديدة الوقع على طبيعة الوعي الوطني لدى الحركة الأسيرة من ناحية الوافدين الجدد إلى السّجون، حيث أصبحت المناسبات خاصّة بكلّ فصيل على حدة وبالتّالي صار الوعي الثّقافي الوطني عند الأسرى الجدد متعلّقا بنظرة الفصيل الذي ينتمون إليه إلى الأحداث والمحطّات المهمّة في تاريخ القضيّة، وبعد أن تحوّل الأسرى المحرّرون إلى سياسة الباب الدّوّار، والمقصود به الاعتقالات لدى الأجهزة الأمنيّة الفلسطينية أصبح الآخر البعيد بمثابة العدوّ، وقد أدّى تدخّل المسؤولين في حياة الأسرى إلى عداء شديد عند الآخرين ضدّ إخوانهم المعزولين عنهم، وعند هذه النقطة الحرجة يمكن تسجيل ملاحظة مهمّة مفادها أنّ المناسبات الوطنيّة في حياة الأسرى قد صارت في زاوية ضيّقة تتعلّق بمناسبات محدودة لا يمكن أن يأتي الانقسام على ماهيّتها مثل ذكرى النّكبة والنّكسة ويوم الأسير الفلسطيني، والاحتفال بها لا يعدو عن قراءة تعميم عابر عن المناسبة مع التّأكيد على الحقّ الفلسطيني في البقاء والتحرير وهذا أيضا من وجهة نظر الفصيل المُصدر للتّعميم.
كنّا قبل الانقسام نناقش كلّ فكرة وأسلوب وهفوة وإنجاز عند أيّ فصيل، وهذا كان نوعا من التّغذية الرّاجعة والتّمحيص لتاريخ شعبنا ككلّ، أمّا بعد الانقسام فقد حدث أنّ هناك أسرى لا يعلمون عن غيرهم من الفصائل إلاّ التعميمات الإعلاميّة الفجّة القائمة على الشّحن العاطفي أكثر منها على الإقناع والدّقّة والموضوعيّة، وفي حقيقة الأمر فإن الصّورة السّافرة تعني أنّ المناسبة المتعلّقة بالفصيل الآخر غدت نوعا من المعلومات السّرابية المشوّشة، فكأنّك تتحدّث عن أساطير الفايكنج عند الحديث عنها، فابن التّيّار الإسلامي لا يدري شيئا -بعد الانقسام- عن حركة فتح، ويشوب معرفته الكثير من المغالطات وربّما يحصر معلوماته في ما حصل بعد اتّفاق أوسلو وممارسات السّلطة الفلسطينيّة، وكذلك فإنّ ابن حركة فتح -بعد الانقسام- لا يعلم عن الحركة الإسلاميّة إلاّ ما كان بعد عام 2006 ومن وجهة نظر فصيله، أي أنّ الانقسام ليس سياسيّا بحتا كما يظنّ البعض بل صار انقساما في الوعي الوطني، وانقساما حول التّكييف الفكري والإيديولوجي لقرن ونيف من النّضال المتتابع المتضافر الذي يعزّز بقاء الشعب ككلّ كجذوة المقاومة الأخيرة في وجه كلّ مؤامرة ومحاولة تركيع وما الفصائل إلاّ أدوات يعدو عليها التّغيير وتبقى فلسطين وقضيّتها.
ختاما،ربّما يدور في خَلدك السّؤال حول أهمّية ما كُتب سابقا؟ ولك الحقّ في ذلك،لكن ما يمكن قوله هو أنّ الاحتفال بالمناسبات الوطنيّة لم يكن من باب الاجترار التاريخي واستعراض الأمجاد، بل كانت المناسبات الوطنيّة في حياة الأسرى محطّات مهمّة جدا في معركة الوعي ضدّ المحتل وروايته ورغبته الشّديدة في محو تاريخنا من الوجود. وكانت المناسبات المتنوّعة وعلى اختلاف القائمين بها تثبّت وجود الرّواية الفلسطينيّة للتّاريخ المتكامل، وتشكّل تلك الرّواية الكلّ الفلسطيني في الأسر وغيره ولا يتفرّد بها أحد أو يصوغها كما يشاء، لقد انعكس غياب الآخر في أقسام الأسرى على أسرى ما بعد الانقسام -إلاّ من كان مجتهدا بصورة فرديّة- فصار هناك قصور في الوعي الوطني العامّ فيما يتعلّق بالقضيّة وتكرّست ثقافة الإقصاء كنتيجة حتميّة لغياب الآخر والخوف، فإن لم يتمّ تدارك ما يحدث فسيكون المحتلّ هو المستفيد الوحيد حيث ستغيب الرّواية المتكاملة للقضيّة وسيُعمل المحتلّ مبضعه حيث شاء في الوعي الفلسطيني وخير مثال على ذلك ما أصطلح على تسميته بالفلسطيني الجديد. والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.