
الشهيد باسل الأعرج
كانت المرّة الأولى بالنسبة لي أن أدخل إلى المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة من بوابة الأهل. ذهبتُ أنا وصديق آخر لحضور محكمة صديقنا أشرف أبو عرام المُتهم بالانتماء لتنظيم محظور والتخطيط لتنفيذ عمليّات.
لست غريبا أبدا عن مجتمع الأسرى فلطالما كنت مضيفا لهم، وأسمع قصص نضالهم ونضال ذويهم وعذاباتهم وآلامهم وآمالهم، لكن هذه المرّة رافقتُهم في إحدى رحلات الآلام.
ما إن وصلنا البوّابة الخارجيّة لمعسكر عوفر في محافظة رام الله، وبعد اجتياز البوّابة الأولى حتى عرضنا بطاقات الهويّة للمُجندّة القابعة خلف الزّجاج السّميك، لنخرُجَ وننتظر السّيّارة المكلّفة بنقلِنا إلى المحكمة داخل المعسكر.
في ساحة الانتظار وعلى بعد كيلومتر واحد تقريبا من البوّابة الأولى قابلنا أُسرة أشرف. أبوه وزوجته حاضران أيضا برفقة أهل محمّد زيتون شريك أشرف في التّهم، زوجة أشرف وخطيبة محمّد أختين بالمناسبة.
خلال هذه العمليّة لا بدّ لك من المرور عبر ثلاث بوّابات إلكترونيّة وأربع بوّابات عادية وأربع بوّابات دوّارة (يُطلق عليها اسم “معاطة” للتّشابه بينها وبين الآلة المستخدمة في إزالة الرّيش عن الدّواجن بعد الذّبح)، وتجبر على عرض بطاقة الهويّة مرّتين، وفي المرّة الثّانية تتركها مع الجنديّ وتستلمها عند المغادرة.
بعد أقل من ساعة من وصولنا المحكمة وبقائنا في ساحة الانتظار، تمّت مناداتنا عبر الميكرفون لحضور جلسة المحكمة. بعد التّفتيش اليدويّ والإشعاعي وأيضا عبر آلة كشف المعادن اليدويّة ولجنا في دهاليز تارة تذهب يمينا وتارة إلى اليسار، تلك الدّهاليز ترسم مسلكك بشكل إجباري ومع هذا تمّ وضع إشارات توجيه على تلك المسالك الإجباريّة عبر الدّهاليز المصنوعة من القضبان والأسلاك والمسقوفة على ارتفاع مترين.
عندما وصلنا إلى قاعة الانتظار في المحكمة لم أستغرب أنّ المباني بلونها الأبيض والمصنوعة من مواد غير قابلة للاستدامة تشبه إلى حدّ كبير المباني التي تظهر في فيلم الهروب الكبير الذي يتحدّث عن قصّة هروب أسرى حرب من الحلفاء من سجن المباني، اللّون والتّصميم والمساحات الخاصّة بهم والمساحات الخاصّة بنا.
أمام قاعة الانتظار توجد ساحة تفصلها عن قاعات المحكمة، أسلاك شائكة أخرى وحارس وحيد احتمى من الحرّ بالالتصاق بالحائط المجاور للبوّابة. التّصميم يفصل تماما باقي المعسكر عن قاعة الانتظار ليصبح هناك عالمان مختلفان فلا تعرف ماذا يدور في الجهة الأخرى، ويتمّ جلب الأسرى من النّاحية المقابلة فلا تراهم إلاّ داخل قاعة المحكمة.
مساحة قاعة الانتظار 54 مترا مربّعا ويوجد فيها 52 كرسيّا وخدمة التّكييف حاضرة ( أهلاً وسهلاً بزبائننا الكرام )، وليس من المبالغة أو التّهكّم عندما أقول زبائن، فالقصص التي سمعتها من أهالي الأسرى هناك هي تقريبا نفس القصص التي أسمعها أثناء استقبالي لهم لزيارة عمّي المحامي في البيت، ففي اللّهجة الفلسطينيّة الدّارجة الزّبون ليس المستهلك بقدر ما هو المتردّد على المكان مرارا وتكرارا، عدد كبير من الأسرى قضوا أكثر من محكوميّة ودخلوا السّجن عدّة مرّات، وعدد كبير أيضا من الأسرى من له أقارب درجة أولى دخلوا السّجن سواء كان أبا أو أخا أو أمّا أو أختا.
في تلك القاعة كافيتيريا صغيرة يديرها جنديّ خمسينيّ مصاب في رجله ويعلّق صورته باللّباس العسكري قبل تقاعده نتيجة الإصابة في الزّاوية البعيدة من الكافيتيريا (المصابون من الجنود قليلو الشّأن يتمّ منحهم أكشاكا أو كافيتيريات صغيرة ليعيشوا منها وتقديرا لتضحياتهم والتزاما من الجيش وثمنا لتضحياتهم أمّا الضّبّاط فيمنحون محطّات وقود ومشاريع أهمّ بكثير).
جلست بقرب سيّدة ثمانينيّة وبدأت حديثها معي هروبا من ملل الانتظار. قالت لي إنّها أمّ لشهيدين وأخذت تقصّ قصتها، كانت قد جاءت لحضور محكمة حفيدها الذي تمّ اعتقاله بعد إصابته بالرّصاص الحي في قدمه، من ثوبها وألوانه ونوع التّطريز قدّرت أنّها من قرى رام الله، أخبرتني أنّها من قرية سنجل (قرية قرب رام الله سمّيت بهذا الاسم نسبة لريمون السنجيلاوين أحد قادة الصّليبيّين الذي قام بتهجير سكّان تلك المنطقة في عام 1100 وبنى قلعة سمّيت باسمه وأغلب المهجرين رحلوا إلى قرية بيت فوريك بالقرب من نابلس).
ينقسم المجتمع الفلسطيني إلى قسمين حسب تعرضهم لتأثير الاحتلال، قسم يتعرّض إلى تأثير مباشر وقسم يتعرّض إلى تأثير غير مباشر، ولا أبالغ أبدا إذا قلت إنّ بعض النّاس الذين يتعرّضون للتّأثير غير المباشر يكادون لا يعرفون (أو الأصحّ لا يشعرون) أنّ هناك احتلالا إلاّ عبر شاشات التلفاز.
أمّا أهالي الأسرى وبما أنّهم منابع “الإرهاب” وعشش دبابير مصغّرة في نظر العدوّ فيتعرّضون إلى أقسى أنواع القمع بنوعيه الخفيّ والمباشر، منذ ولوجك من البوّابة الأولى حتى قاعة المحكمة يتمّ تعريضك لقصف ذهنيّ مستمر، بعد عبورك البوّابة الأولى تتقن لوحدك عبور البوّابات التّالية تطبيقا لنظريّة الارتباط الشّرطي الكلاسيكيّة لبفالوف .
هناك 68 لوحة قوانين وتعليمات (ناهيك عن إشارات التّوجيه التي لن تحتاجها أصلاً) في مساحة 170 مترا مربّعا. ما لفت نظري أنّ هناك ثلاثين لوحة تمّ ترويسها بشعار جيش الاحتلال كتب عليها: “يجب الحفاظ على النّظافة واتّباع تعليمات قوّات الأمن”، ليتحوّل الخضوع للعدوّ إلى قيمة اجتماعيّة مشابهة لقيمة الحفاظ على النّظافة، علما أنّه من المستحيل أن يتمّ توسيخ المكان لأنّك لا تدخل إلاّ وبحوزتك نقودك ومفتاح صندوق الأمانات الذي تترك فيه كلّ حاجياتك.
ليس مستغربا أن تتمّ مثل هذه الإجراءات بحقّهم والتي لا تخلو من الإهانات والتّحقير والتي تجبرك على التّأدّب في سبيل زيارة لأسيرك ناهيك عن الإجراءات القمعيّة الأخرى التي تمارس ضدّهم خارج أسوار المحكمة من منع سفر ومنع تصاريح واستدعاءات مستمرّة وتعطيل مصالح وإذلال موازٍ في دوائر القرار والتّنفيذ الفلسطينية فهؤلاء مصدر صداع العدوّ والأكثر وعيا لواقعهم والأكثر عداء للعدوّ.
لا تستهينوا بتلك الإجراءات من القمع الخفيّ والعمليّات التّأديبيّة الذّهنيّة وصهر الوعي فتأثيرها كبير جدّا فأوّل كلمة سمعتها من أحد أهالي الأسرى داخل قاعة الانتظار (هذول الأولاد شحططونا وذلّونا عسى ان يتعظوا).