
بقلم : فيصل بامري
يوجد في إسرائيل 32 سجنا موزّعة في كامل أنحاء فلسطين، وهي سجون معروفة، ولكنّ الكثير من الأسرى الفلسطينيّين والعرب قد اختفت آثارهم وتنكّرت إسرائيل لوجودهم ممّا يجعلنا نؤكّد وجود معتقلات سرّيّة من بينها المعتقل السّرّي رقم 1391 الذي يبحث الفيلم في حقيقة وجوده.
“رجاء خاصّ أبلغ أهلي أن يزورنِي أو يحرّرونِي”
كانت هذه رسالة الأسير المفقود عماد الزّقزوق التي أرسلها إلى والده مع الأسير المحرّر سمير طقاطقة بعد عامين من دفن ما أوهمت سلطات الاحتلال أهله أنّه جثمانه إثر إصابته في اشتباك معها أعلنت على إثر إصابته فيه وأسره أنّه قد استُشهد!
ويذكر والد الأسير المفقود عماد الزقزوق أن عمليّة الدّفن تمّت ليلا وبحضور سيّارتين ومروحيّة للجيش الإسرائيلي الذي منع العائلة من إلقاء نظرة الوداع عليه.
وليست قصّة الأسير المفقود عماد الزقزوق هي الوحيدة التي تركت وراءها جوانب غامضة واسرار لم تُكشف بعد، فالعديد من الأسرى الفلسطينيّين والعرب مفقودون منذ عقود، ومن بينهم الأسير المفقود موسى الرجوب من مدينة دورة قضاء الخليل الذي ذهب في كانون الاول من عام 1978 لمقابلة للمخابرات الاسرائيلية لكنه لم يعود الى بيته مازال مفقودا من ذلك اليوم حتى الآن.
ولقد ظلّ ابنه محمد الرجوب يبحث عن دليل يرشده إلى والده حتى وجد الأسير المحرّر محمد عبد الفتاح نمور الذي أكّد له أنّه كان صحبة المفقود موسى الرجوب مطلوبيْن للمخابرات في نفس اليوم، ويضيف أنّه كان شاهدا على مشادة حصلت بين المفقود الرجوب ومسؤول في المخابرات بعد أن ضربه المحقّق، فتمّ اقتياده من قبل الجنود إلى غرفة أخرى ويؤكد المحرّر نمورة أن الوضع الصّحي للرجوب قد كان سيّئا للغاية. وأنّه منذ اقتياده صار في عداد المفقودين. ومازال ابنه محمّد يطالب بضرورة تسلميه جثمان والده، أو باعتراف إسرائيلي بأنّه قد تمّت تصفيته أم أنّه مازال أسيرا حيّا في السّجون.
وفي هذا السّياق يؤكّد ناصر دمج المختصّ في شؤون الأسرى الفلسطينيّين والعرب، أنّه قد وجد بمتابعة هذا الملفّ الكثير من الأسماء المسجّل أمامهم “مفقود”، ويضيف أنّ إسرائيل صمّمت منذُ البداية مباني سرّية لاحتجاز عيّنات مختارة من الأسرى الفلسطينيّين والعرب، وهو يرى أنّ “المعتقل السّرّي هو ضرورة أمنيّة وعسكريّة لإسرائيل للتّغطية على الجرم الدّولي، ولو أنّ إسرائيل تتعامل مع الأسرى ضمن معايير القانون الدّولي لانتفت الحاجة إلى إخفائهم…وهناك أسرى محرّرين تمّت مقابلتهم أدلوا بشهادات مشفوعة بالقسم للأهالي ولمؤسّسات حقوق الإنسان أنّهم رأوا المفقودين بأمّ أعينهم وأنّهم على قيد الحياة.”
ويشدّد ناصر دمج على أنّ “جزءا من هؤلاء الأسرى مورست بحقّهم أعمال غير إنسانية وغير أخلاقية وغير قانونية أثناء عمليّات التّحقيق، ولقد تعرّض جزء منهم إلى القتل أثناء التحقيق فيما تعرّض آخرون إلى أنواع مبالغ فيها من أساليب التّعذيب، ولقد قامت إسرائيل بحذف أسمائهم من السّجلاّت العسكريّة للجيش الإسرائيلي أو من سجلاّت مصلحة المعتقلات الإسرائيليّة، وبالتّالي نفتهم عن الوجود.
وفي ذات الإطار يقول المحرّر سلطان العجلوني (المعتقل السّابق في أحد السّجون السّرّية لمدّة 47 يوما): “هناك عدد من الأردنيّين تمّ فقدانهم في ظروف غامضة وهناك آخرون من دول عربيّة أخرى وأفراد اعتُقلوا في لبنان لدى جيش لبنان الجنوبي ثم نُقلوا إلى الدّاخل المحتلّ، وقد نقل الصّليب الأحمر الدّولي منهم رسائل إلى أهاليهم ثمّ بعد شهر أو شهرين تمّ فقدانهم نهائيّا، فأين ذهب هؤلاء؟”
ولقد تمّ اكتشاف أحد هذه المعتقلات عام 2003، وعُرف بالمعتقل السّري 1391 الذي يعدّ أكثر المعتقلات سرّية بإسرائيل. ولقد حاول فريق التّحقيق إجراء حوارات مع مسؤولين حاليين وسابقين على اختلاف رتبهم وهياكلهم الأمنية والعسكريّة والاستخباراتيّة ولكنّ جهوده باءت بالفشل، فالسّيّد أيالون من المخابرات رفض الإدلاء بأيّ تصريح حول المعتقل 1391 وأكّد أنّ كلّ المسؤولين الإسرائيليّين سيفعلون مثله وهو ما حصل بالفعل مع شاؤول موفاز مثلا، فيما أكّد رئيس قسم الإنترنت في قطاع العلاقات العامّة بمصلحة السّجون الإسرائيليّة أنّ السّجن 1391 لم يكن تابعا لمصلحة السّجون وأنّه قد كان من مسؤوليّة الجيش.
وبالتّوجّه إلى هذا الأخير قال الملازم إيلا أنّ محكمة العدل العليا قد أصدرت في 20 يناير 2011 قرارها في استئنافين قُدّما ضدّ قانونيّة عمل المنشأة 1391 وسرّيّة مكانها، حيث وافقت المحكمة- بعد الاستماع إلى موقف الدّولة ممثّلة في الأجهزة الأمنيّة والجيش- على التّرتيبات الجارية بخصوص استخدام المنشأة وكلّ ما يتعلّق بها.
وكانت المحامية الإسرائيلية المختصّة بالدّفاع عن الأسرى الفلسطينيّين “ليئا تسيمل” أوّل من خرق التّكتّم عن المعتقل السّري حيث قدّمت طلبات عديدة إلى المحكمة العليا الإسرائيليّة لمعرفة مكان احتجاز الأسرى المفقودين. وهي تقول في لقائها بفريق التّحقيق: “طوال السّنين الماضية لم نعرف مكانه أبدا فلقد حفظوه بمنتهى السّرّية، والمكان بالأصل مقرّ للاستخبارات العسكريّة، اكتشف السّجن بطريقة غريبة … فقدّمت دعوة من قبل مركز الدّفاع عن الفرد وقائمتين كبيرتين من المحامين ضدّ دولة إسرائيل وجيش الدّفاع الإسرائيلي والمخابرات العامّة وشرطة وضابط مقرّ الاحتجاز المعروف باسم 1391. طلبنا معرفة تاريخ المنشاة؟ متى أتأسّست؟ وكم استمرّ العمل فيها؟ وعدد الذين احتُجزوا فيها؟ …
قدّمنا عشرات الأسئلة وأستطيع القول أنّنا لم نحصل على أجوبة.. أعتقد أنّ الكثيرين اعتُقلوا بهذا المكان، ولقد ركّزت الاستخبارات العسكرية حينها كلّ تحقيقاتها فيه، وعلمنا لاحقا أنّ رجال الشاباك نقلوا معتقلين فلسطينيّين إلى ذلك المكان…
إنّ وجود مكان كهذا وإمكانيّة وجوده منذ مدّة طويلة هو الأمر المفزع حقيقة، وإخفاؤه كلّ هذا الوقت يدلّ على العدد الكبير للمتورّطين في الأمر.”
وعلى الصّعيد الدّولي كان الصّحفي البريطاني جوناثان كوك، أوّل من كتب عن هذا المعتقل ونشر عن هذه القضيّة عالميّا. وهو يقول: عملت من أجل إيجاد هذه المنشأة السّرّية، وكتبت ونشرت للفت أنظار النّاس إليها. فهذا ما تعنيه الصّحافة لي. وقد كان أوّل ما عليّ فعله هو العثور على المكان فواجهتني عدّة تحدّيات أوّلها غياب المرجعيّات: أين يقع السّجن؟ فبدأت بتحديد المنطقة ثم ذهبت إلى المكان للنّظر إليه عن قرب، ولقد حاولت مشاهدة ما يجري في الدّاخل.”…
ويضيف كوك: أقيمت المنشأة 1391 للأسرى من العالم العربي والإيرانيّين وللأسرى الأكثر ضعفنا في إسرائيل والذين لا يملكون أيّ نوع من التّمثيل القانوني، حيث لا محامين ولا أحد يلاحظ اختفائهم.”
ويواصل جوناثان: “الفرق بين الأسرى من العالم العربي والأسرى الفلسطينيّين هو أنّ للفلسطينيّين بعض الحقوق التي ينالونها عن طريق المحامين، وبعض القوانين تطبّق عليهم، ولكنّ المشكلة أن إسرائيل عندما أخفت هؤلاء الأسرى بدأت في إثارة انتباه الجميع، وبدا للكلّ أنّ مكانا ما يُخفى فيه الأسرى وشيئا فشيئا وعبر تتبّع هؤلاء الفلسطينيّين اتّضح وجود سجن سرّيّ يضمّ أسرى من جنسيّات أخرى، إنّهم أسرى من العالم العربي كلّه جعلوهم يفقدون حسّ التّواصل مع العالم الخارجي وأرعبوهم وأضعفوهم نفسيّا قبل أن يستخدموا العنف الجسدي ضدّهم بهدف انتزاع الاعترافات… أطلقتُ على المنشأة 1391 غوانتانامو إسرائيل لأنّ العالم في ذلك الوقت مهتمّ وقلق ممّا تفعله الولايات المتّحدة، لكن في الحقيقة ما كانت تفعله إسرائيل أسوأ بكثير ممّا يحدث سجن غوانتانامو … ثمّة علامة استفهام إن كانت منشأة 1391 السّجن السّرّي الوحيد، فنحن نعلم أنّ أسرى آخرين أخبروا محامي مؤسّسات حقوق الإنسان بسماعهم صوت البحر مثلا، ولقد زرت المنشأة وأعلم أنّها ليست قريبة من البحر، وهذا يشير إلى وجود سجن آخر على الأقلّ، وإنّنا نعلم أنّ إسرائيل تستطيع أن تغلق المنشاة 1391 ولكنّنا لا نعلم إن كانت لا تدير سجنا سرّيّا آخر.”
نواصل في العدد القادم الجزء الثّاني من تلخيص فيلم تحقيق خاصّ: السّجن السّري 1391