
الكتابة عن الأسرى تُجهد التّفكير وتتعب النّفس وتخلط الأوراق، ومجرّد أن تبدأ التّفكير بالكتابة عن معاناتهم وأحوالهم تتعب روحك وتتحطّم أحلامك وتشعر بقيمة ذاتك على حقيقتها وصغر حجمها أمام تضحياتهم الأسطوريّة. فعند الحديث عن الأسرى تفقد الأحاديث الأُخرى قيمتها ومصداقيّتها ولو بقيتُ أكتبُ عنهم طوال حياتي وكرّست وقتي وجهدي لإيصال صوتهم وتسليط الضّوء على معاناتهم ما أنصفتهم البتّة، وما أعطيتهم حقّهم، فمن يُضّحي عن درايةٍ تامّةٍ وقناعةٍ راسخة بروحه وماله وأبنائه ويُخاطر بحياته لأجل القضيّة ونصرة الأمّة وهو يعلم مسبقًا أنّ الوقوع في الأسر ليس نزهةً أو رحلة بل هو الموت في اليوم ألف ألف مرّةٍ بأبشع صورة وهو على قيد الحياة جرّاء الأساليب التي يستخدمها العدوّ ضدّهم والتي لا تخطر على البال لتعذيبهم وإرهابهم فيذيقهم طعم الذّلّ والقهر ويحاول جاهدًا إرغامهم وتركيعهم. ومع ذلك فإنّ ترسانة العدو رغم حداثتها وبشاعة أساليبها لم تستطع أن تكسر إرادة الأسرى الفولاذيّة.
لكن ماذا يعني هذا بأن يكونوا أقوياء ويقارعون العدو ولا يخشونه، ونكون نحن جبناء نخشى السّلطة التي ترى التّنسيق مع المحتلّ مقدّسا وأنظمتنا العربيّة المهترئة التي تحاول طمس القضيّة وتمييعها ولا نستطيع تقديم شيء يليق بتضحياتهم وبطولاتهم؟ وماذا يعني أن نسمع ونقرأ عن بطولات الأسرى في سجون الاحتلال ثمّ نصفق لهم برهةٍ من الزّمن أو نتعاطف معهم خلسة في جلسةٍ أو ندعمهم بدراهم معدودةٍ لا تُغطّي أدنى احتياجاتهم ونتشدّق بدعمنا لهم، ثمّ نمضي وكأنّ شيئًا لم يكن.
يفوق التهميش الممنهج الذي تمارسه السّلطة الفلسطينيّة بحقِّ الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال أضعافًا مضاعفة ما يُمارسه المحتلّ من تعذيبٍ وتنكيل بحقّهم، فالتّهميش أشدُّ وطأة وأكثر قهرًا وقسوةً للأسير، فماذا يعني أن تعلم السّلطة بكلّ الانتهاكات التي تُمارس ضدّ الأسرى داخل سجون الاحتلال كي يرضخوا للمحتلّ ويتنازلوا عن حقوقهم بالإضافةً إلى الضّغوطات النّفسيّة والمعنويّة التي يُمارسها المحتلّ على أهالي الأسرى، كلّ هذا يحدث وأكثر والسّلطة لا تُحرّك ساكنًا ولا تُقدّم مساعدةً ولا تبحث عن حلٍّ لفكّ الأسرى وتحريرهم، والأدهى والأمرّ من ذلك أنّها تُنسّق مع المحتلّ على قدمٍ وساقٍ فتُمسك بكل مقاومٍ حرٍّ شريف وتُسلّمه للمحتلّ من أجل إتمام عمليّة السّلام والتي هي أوهام في أوهام. فهذا المحتلّ كما قال شيخنا الرّاحل والمقاوم الدّكتور عبد العزيز الرّنتيسي ” إنّ عدوكم هذا لا يفهم إلاّ لغة واحدةً ألا وهي لغة الحِراب ” وليست لغة التّنسيق والتّسوية وطمس الهويّة وقتل الأسرى ببطء.
إنّ تخاذل السّلطة والمنظّمات الحقوقيّة والإنسانيّة وعامّة الشّعب الفلسطيني وباقي أبناء الأمّة في كلِّ زاويةٍ من زواياها عن نصرة الأسرى هو خيانة لله عزّوجلّ ثمّ لتضحيات الأسرى الأشاوس الذين قدّموا أغلى ما يملكون.
إنّ المطلوب منّا في هذا التوقيت أن نعمل ضمن المتاح الممكن وذلك من خلال تسليط الضّوء إعلاميّا ومجتمعيّا وعالميّا على معاناة الأسرى وأن ننقل صدى صوتهم في مجالسنا وأحاديثنا وأن نُشعرهم أنّهم ليسوا مهمّشين ولا في عداد المنسيّين وإنّما هم الأبطال الحقيقيّون والغرّ الميامين، وإنّ نسيان الأسرى أو تناسيهم جريمة لا تسقط بالتّقادم وكلّ متخاذل عن نصرتهم لن يرحمه التّاريخ ولا الشّعوب. وفي ظلّ الظّروف التي تعيشها الأمة فإننا نحن الأسرى وهم الأحرار يكفيهم أنّهم يتفوّهون بكلّ حرّيّة أما نحن فلا نستطيع فتح أفواهنا إلاّ عند طبيب الأسنان.