
هنا في عالم الجدران والأبواب الموصدة، والآن في الزّمن الدّائري للمكان، وحيث تكبر الأحلام وتتألّق وتغدو ملائكة بلا أجنحة، ولد انتظارنا الجميل. وهنا حيث يشعرك المكان بأنّك منتهك الإرادة أمام اللاّشيء وأمام كلّ شيء، تتسلّل الآمال كأشعّة الشّمس إلى عتمات زنازيننا الضيقة.
سيقال عمّن يتخطى عتبة الرّبع قرن في الانتظار (جنرالات الصّبر)، ونحن نتساءل بلا فائدة ما هو الصّبر؟ إذ لم نعد نعرف له أيّ معنى، ولم تبق لهذه المفردة أيّة دلالة أو قيمة في هذا المكان، وفي هذا الزمان الذي لا يحدّه أيّ حدّ… ففي هذه الصّحراء الشّاسعة من المؤبّد الرّمادي يتعيّن عليك أن تخطو. سيتراءى أمامك السّراب فتسرع الخطى وتتبعه، ولا خيار أمامك إلاّ أن تخطو وراءه، فلولا ذلك السّراب لما كان علينا أن نواصل السّير في طريق دائريّ، لسنا جنرالات وليس الصّبر طريقا لهذا الانتظار الطّويل.
هنا والآن نحيا في علب إسمنتيّة باردة، وخلف الأبواب الزّرقاء الموصدة لم نعد نشعر بالزّمن، ولم نعد نحصي السّنوات التي تمضي مسرعة دون تغيير فأيّامنا متشابهة… وثيابنا متشابهة… والحجرات والأدوات وأصناف الطّعام كلّها متشابهة. وقد صرنا نحن أيضا متشابهين من الدّاخل والخارج، في الظّاهر والباطن، وحتّى أحلامنا وآمالنا قد أصبحت متشابهة… نحتسي الآمال المعبّقة فيما تتحفّز أحلامنا للانطلاق من مراقدها متى صارت لها أجنحة. ولا شيء هنا سوى الشّكل المربّع أو الاسمنت والحديد والجدران، أو زمننا الدّائري، وهنا كبرت أجسادنا ولكن لم تشخ أرواحنا ونحن نحيا حالة الانتظار الجميلة والجليلة. وهنا كبرنا نحن والسّجّانون والسجانات… كيف لم يخطر لهؤلاء بأنّهم مسجونون مثلنا، وأنّهم مسلوبو الإرادة، وأنّهم مجرّد براغ قد صدئت في هذه الآلة الشّيطانيّة، فبعضهم أمضى عمره في هذه المهنة السّافلة؟ كيف لم يخطر لهم بأنّهم ضحايا مثلنا حين زجّوا بهم في أتون زمننا الدّائري فباتوا أسرى للقيود والمفاتيح وإحصاء ارتخاء أجسادنا الذّابلة بعد أن أشبعهم رؤساؤهم بأكاذيب الأرض الموعودة وتاريخ الأجداد الأسطوري؟ وكيف لم يخطر للسّجّانات أنّهنّ شوّهن أنوثتهنّ بين القيود والأبواب وجدران الإسمنت؟ ولماذا لم ينتبهن إلى كونهنّ لا يعتبرننا أكثر من مجرّد كائنات هلاميّة أو أشباح لا شكل لها؟ ولماذا لا ننتبه نحن أيضا إلى أنّنا لا نعتبرهنّ كيانات وذوات بل مجرّد آلات؟ وكيف ننسى أنّهنّ كائنات بشريّة -حرّة في الأصل- قد جرى طمس أرواحها الإنسانيّة؟!
هنا في عالم الانتظار تتّسع المعاني وتغدو أكثر كثافة، وهنا تصغر ألقابنا ومسمّياتنا، فـ(القادة والأبطال والأساطير والجنرالات) كلّها ألقاب لم نعد نحسّ بها ولا تدهشنا كثيرا، إنّنا بشر عاديّون نحتفي بأسمائنا الأولى المجرّدة.
هنا تستيقظ أحلامنا في النّهار وتعود في الليل إلى طفولتها البريئة، فنحن لم نكبر، لازلنا أطفالكم ولم تصدّقوا بأننا نغدو أطفالاً كلّما كبرنا، وإنّ أعمارنا لتقصر أعمارنا لأن عالمنا صغير، وإنّنا في مرحلة الطفولة نشرع في رحلة على أجنحة الخيال لكي نوسّع آفاقنا، فالخيال الواسع هو زادنا وعتادنا الذي نحلّق من خلاله بعيدا عن عالمنا الضيّق الصّغير.
هنا ننتهك قيود الأسر بآمالنا، نعلّل النّفس بالآمال التي لا نرقبها، بل ننتظرها، لا طيبة في العيش ووسائله لدينا، بل ضيق المكان والاختناق في ضيق الوقت. أمّا فسحة الأمل فإنّها تضيق وتتّسع حسب نشرات أحوالنا وطقوسنا. ونحن نتدّرب على الحياة واحتمال قسوة الزّمن انتظارا لبزوغ شمس يوم الاحتفال الكريم، وهنا تتجلّى العلاقة بين الحرّيّة والانتظار، والحرّيّة متعدّدة المعاني، هي في أحد معانيها فنّ الانتظار. وهنا تدار ولادة الوقت الجديد من رحم الزّمن الدّائري وانتظارها ليس ترقّبا لأنّ التّرقّب شكل من أشكال الابتذال، أمّا الانتظار فإنّه حالة من حالات العشق المكتسي بالأحلام الجميلة بإشراقة شمس الحرّيّة في أرواحنا الحالمة.
وهنا لن نحجم عن مواصلة الانتظار، ولن نكفّ عن الحلم الأجمل على الإطلاق حلم الحرّيّة، ولن نسمح للشّكوك في جدوى النّضال أن تساورنا، ولن يمنعنا العمر الذي نغزوه في عتمة الزّنازين، ولكم أن تطمئنّوا، فنحن لم نتكلّس بعد، فبعضنا شارف على إتمام أربعة عقود في الأسر ولم يتكلّس حلمه ولم ينتكس إيمانه العميق بمعنى الحياة. وهنا أيضا ما برحت تنمو في أعماقنا غابات السّنديان التي تذبل أجسادنا ولكنّ أرواحنا لا تزال خضراء تتشبّت بالحياة والأفراح القادمة والأعمال المؤجّلة، فشهوة الحياة فينا مازالت متّقدة، ونيران أشواقنا لم تنطفئ، ولن تتجّهم أرواحنا يوما لأنّ الزمن سيبتسم لنا ولا شكّ أنّه يخبّئ لنا في غيبه أجمل اللّحظات.
سنعدّ خطانا رويدا رويدا نحو أرض أحلامنا البكر، ولن نتعجّل كي لا نصاب بسكتة قلبيّة، وسنظلّ ندرج كما يدرج الأطفال على حوافّ الانتظار حتّى تنكسر دائريّة الزمن ويولد وقتنا الأجمل، وسيأتي يوم نزدري فيه الأبواب، وسنسخر من قيودنا التي صدئت فوق جلودنا، وسننمو كالبراعم، فانتظرونا حين نتفتّح كالزّهور تحت الشمس، ونغنّي معا للحرّيّة، ونسدل السّتار على فصل من فصول المرارة والألم…لن نتظاهر ببطولات خارقة ولا بقدراتنا الفذّة على تحقيق المستحيل. لذلك فلتستقبلونا حينما يأتي موعدنا مع الحرية كبشر عاديّين أعياهم وجع الانتظار، استقبلونا نحن القادمون من وراء الشّمس، نحن المشتعلون بعشق الحياة، وسنترك من خلفنا أوجاعنا وآهاتنا ومتاعبنا، لن نذرف دمعنا على أكياسنا الحجريّة، ولن نقف في المكان ونبكي زمن الغارب على عادة شعراء الجاهليّة لأنّه لم يكن زمنا جميلا كي نبكي عليه، ولا مكانا رائعا كي نأسف عليه.
وريثما تأتي لحظة انعتاقنا من بين الجدران وانبعاثنا من القبور الإسمنتية، سنتهيّأ انتظارا لهذه اللحظة، وحينما تشرق شمسنا سنبدأ بتعلّم الحياة من جديد ببديهيّاتها البسيطة والسّاذجة، ستضحكون من جهلنا وسذاجتنا، احتملونا لأنّنا سنتدرّب على النسيان… نسيان ما تركته الجدران فوق أجسادنا ولسعات سياط الزّمن فوق جلودنا، وسنتدرّب على الحياة من جديد على نحو يتيح لنا بناء ذاكرة جديدة.
لسنا يائسين ونحن نحبو على أعتاب الانتظار، انتظار حصار طوفان الألم، ومع هذا سنكون منشغلين بالسّجن لأنّه علّمنا المعنى العميق للحرّيّة، وسنواصل الحياة بكلّ ما أوتينا من فرح، ولن نسمح للأسر بأن يهزم أرواحنا.
نحن الحالمون… نحن العائدون إليكم مهما تأخّر الوقت، بحوزتنا الكثير ممّا سنرويه لكم عن رحلتنا في هذه البيداء الجافّة عن أحلامنا وأوهامنا ومتاعبنا، سنأتيكم كفصل الحضور من بعد هذا الغياب الطّويل، ولن نتعب من مواصلة الأحلام، ولن نعتب على الزّمن، وريثما نعانقكم وقد أغرقنا الفرح والحرّية… انتظرونا ونحن ننتظر معكم انتظارا جميلا سيتكلّل بالنّهايات السّعيدة، انتظرونا فنحن حتما …عائدون.