عين على السجون

سياسة العقاب الجماعيّ

كتب : مروان أبو فارة

 

تمارس مصلحة السّجون الصّهيونيّة سياسة العقاب الجماعيّ ضدّ الأسرى، ولقد تبيّن من خلال الإستقراء التاريخي أنّها سياسة قديمة موروثة من فترة الاحتلال البريطاني في فلسطين، حيث عمدت بريطانيا حينها وتحديدا خلال فترة الثّورة الكبرى في فلسطين 1936-1939 إلى سياسة العقاب الجماعي بقصد الإضرار بالحاضنة المجتمعيّة والشّعبيّة للثّوّار، فكانت تقوم بالتّنكيل والقتل والاعتقال لجميع من يسكنون القرية أو البلدة التي يخرج منها من ينفّذ عمليّات عسكريّة ضدّ المحتلّ البريطاني، وكانت سياسة العقاب تشمل في معظم الأحيان حالات قتل متعمّد أمام الجماهير المحشودة قسرا لتحقيق سياسة الرّدع، ومنع تكرار القيام بأعمال مضادّة للمحتلّ البريطاني حينها، وبما أنّ الكيان المحتلّ هو الوليد المباشر والمدلّل للاحتلال البريطاني، وكما هو العرف في التّربية بشكل عامّ فقد ورث المحتلّ هذه السياسة عن والدته بريطانيا وقام بتقنينها وشرعنتها حسب ما يخدم مصالحه ويحقق له الرّدع المزعوم.
بعد ما سبق يمكن الحديث عن سياسة العقاب الجماعي التي تتّخذها مصلحة السّجون الصّهيونيّة ضدّ الأسر بشكل خاصّ، حيث كانت هذه السّياسة على مرحلتين يمكن من خلالهما الحديث عن سياسة العقاب الجماعيّ بما يقارب الواقع بنسبة كبيرة، فتاريخ الحركة الأسيرة واسع ممتدّ في أحداثه وأشخاصه لذلك لا يحيط المرء علما بكلّ ما مرّت به الحركة من أحداث.
المرحلة الأولى وهي مرحلة ما قبل الانقسام حيث كانت الحركة الأسيرة بصورة ما موحّدة، وتحديدا بعد تسعينيّات القرن المنصرم عندما اكتمل الطّيف الوطني للحركة الأسيرة بصورة شبه مقبولة، منذ ذلك الحين كان أيّ قانون يسنّ أو إجراء يتخّذ يشمل الكلّ الأسير وكانت الإجراءات كلّها في مضمار التّشريعات التي تمسّ الحياة اليوميّة للأسرى بشكل عامّ، كفترة الاستراحة اليوميّة وقنوات التّلفاز ووقت الزيارة وطبيعتها، فكان القانون بصورة كبيرة يشمل كلّ الأسرى ممّا يُضطرّهم جميعا إلى التّحرّك ضدّ ما تشرّعه مصلحة السّجون بخطوات تصعيديّة تصل إلى الإضراب المفتوح عن الطّعام لوقف القانون أو التّشريع الجديد، وعندما ينجح الأسرى في وقف التّشريع الجديد تكون النّتيجة ذات انعكاس على الكلّ الأسير، وهنا يمكن القول إنّ سياسة العقاب الجماعي كانت مختفية ومتلبّسة بلبوس القوانين وغيرها وذلك من باب مراعاة قوّة الحركة الأسيرة بشكل عامّ، فلم يكن المحتلّ يجرؤ أن يتحدّث عن الأمر وكأنّه عقاب جماعيّ، بل كان الأمر مجرّد قوانين وتشريعات قابلة للإيقاف والثّورة ضدّها.
ويلحق هذه المرحلة ما حدث بعد فشل إضراب عام 2004، حيث كانت النّتائج كارثيّة، فلقد تمّ تركيب الزّجاج العازل للزّيارات وتمّ منع الزّيارات الخاصّة، وتمّ كذلك تقنين وقت الزّيارة وغيرها من الأمور، فلقد اعتبر المحتلّ حينها أنّ الفرصة سانحة ليفعل ما يشاء، فالظّروف مواتية من النّاحية السّياسيّة في الخارج وتذرّع المحتلّ بأنّ هناك عمليّات حصلت ضدّه قد تمّت بأمر من بعض الأسرى، فكان الانكسار النّاتج عن فشل الإضراب فرصة سانحة لتشريع قوانين جديدة لم يكن للأسرى حينها القدرة على الوقوف ضدّها.
المرحلة الثّانية كانت بعد الانقسام والذي شمل الأسرى أيضا، حيث تمّ عزل أبناء كلّ فصيل في أقسام خاصّة، وقد استغلّ المحتلّ هذه الفترة بصورة كبيرة جدّا، فصار من الصّعب الحديث عن موقف موحّد للحركة الأسيرة حتّى ولو من باب المناكفة، وبعد أسر الجنديّ الصّهيوني جلعاد شاليط تمّ التّفرّد بأسرى الحركة الإسلاميّة بصورة فجّة وهمجيّة دون أن يكاتف الأسرى بعضهم بعضا، فانفردت مصلحة السّجون بكلّ فصيل على حدة دون أن يكون هناك ما يردّ قرارها، وبلغ الأمر ذروته عندما أقرّ المحتل القانون المعروف بقانون شاليط عام 2010 ، بأن مُنع الأسرى من أبناء الحركة الإسلاميّة من الصّحف والزّيارات والقنوات وكذلك عدم تحديد فترة العزل الانفرادي، وغيرها من الإجراءات التي يصعب تقصّيها لأنّها لا تحصى كثرة وتعديلا.
ومن المهمّ ذكر ما يمارسه السّجّان المحتلّ من سياسة العقاب الجماعيّ، فأرى أنّ المقام يتّسع لضرب مثال عن حادثة -لنقل أنّها مفترضة- ما، فمثلا هناك نوع من التّحرّك من قبل الأسرى ضدّ سياسة التّضييق عليهم وتنغيص حياتهم اليوميّة، فبدل الإضراب وتحديدا فيما يتعلق بأمور الإهانة للأهالي وتفتيشهم بصورة مذلّة ومهينة، درجت العادة أنّ الرّدّ يكون بالقيام بعمليّة طعن داخل السّجن وبصورة عاجلة، ومن يتقدّم لذلك يعلم ما سيحدث له من باب الاستقراء لتاريخ الحركة الأسيرة، فبعد تنفيذ عمليّة الطّعن ضدّ السّجّان المحتل تقوم مصلحة السّجون بإغلاق الأقسام ومن ثمّ تقوم بقطع الكهرباء والماء، وتقتحم القوّات الخاصّة الغرف وتقوم بالتّنكيل بالأسرى ومن ثمّ مصادرة كلّ الأدوات الكهربائيّة الخاصّة بهم، وتمنعهم من الفورة اليوميّة إلا لساعة واحدة يتمّ اختيارها من قبل المحتلّ، ويتمّ قطع الكهرباء حسب التّشريع الجديد لمدّة تصل إلى 72 ساعة متتالية ويكون الطّعام المقدّم هو خشاش طعام المحتلّ الذي يقدّمه دون ملح وبما لا يقبله أيّ بشري سويّ، ومن ثمّ يكون العقاب الجماعي التّالي على شكل محكمة صوريّة تعاقب من تحاكمهم بمنع إدخال مخصّص الكانتين لفترة ثلاثة شهور أو أكثر ومنع الزّيارة لفترة مقاربة وكذلك غرامة ماليّة إضافيّة، طبعا الحديث ليس عن المحاكم العسكريّة الصّهيونيّة المعروفة بل هي محكمة تتألّف من عدّة ضبّاط من مصلحة السّجون يمارسون قانونهم الخاصّ حسب رغباتهم وإن كانوا ظاهرا يقولون بأنّهم يحتكمون لقانون مصلحة السّجون، بعد المثال السّابق يمكنك القياس على كلّ تحرك يقوم به الأسرى ماذا سيحلّ بهم إن فشلوا في تحقيق مطالبهم.
إنّ سياسة العقاب الجماعي في العقد الأخير تنبئ بحجم الخذلان الذي تتعرّض له الحركة الأسيرة -في جزء  منها- حيث تفرّد المحتلّ بكل فصيل ومرّر ما يشاء، وصارت حياة السّجن تجمع بين غياب الحرّيّة والتّغييب في ظلمات الجبّ وخذلان المؤسّسة الرّسميّة وبعض الحركة الأسيرة لبعضها، فبينما يتعرّض قسم ما للقمع والتّنكيل تسير الحياة بشكلها الطّبيعيّ والعادي جدّا في قسم آخر بجانبه، وهذه النّتيجة الكبرى المحزنة لسياسة العقاب الجماعي، فلا ندري حينها أنبكي أم ماذا نفعل؟

قد لا يعجب حديثي الكثيرين مع أنّي تعمّدت إخفاء بعض التّفاصيل لأحافظ على بعض من الأمل والجمال في صورة الأسير الفلسطيني كآخر حصون الوحدة الوطنيّة ولكنّ المحتلّ قد أوغل فينا تقسيما وتنكيلا وبعضنا يرقب بعضنا، والله على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون…

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى