مذكرات أسير

مذكرات أسير في السجن

 

 

بقلم: الأسير المحرر محمود مرداوي

 

بينما كان أوَر انتفاضة الأقصى يشتعل سنة 2000م، كنّا في السّجن نراقب الأحداث ونتفاعل معها ونعيش تفاصيلها نظرًا لامتدادها على مساحة كل الوطن، فكان لها التأثير المباشر، ولأزيز رصاصها صدى كبير في قلوب كل الأسرى، ممّا جعل منها محطة فارقة في تاريخ الحركة الأسيرة وعلاقتها مع "مديرية السجون" التي حكمتها قاعدة: "ما هو خارج الأسوار يظلّ خارجها وما هو داخلها لا يغادرها" ! فلا يؤثّر ما يجري في الخارج على الوضع الدّاخلي والعكس صحيح.

لكن الظروف التي عصفت بالأسرى وأثرت في نفسيّاتهم وشكّلت وعيهم كانت بالغة الأثر، وجاءت في سياقها التّاريخي مؤثرة من خلال عامل العدد وطبيعة الفهم والتفكير، فتوافد آلاف الأسرى من خارج السجون إلى داخلها بثقافة جديدة ووعي مختلف لم ينسجما مع المفاهيم التي نظّمت إيقاع العلاقة الداخلية للحركة الأسيرة والبينية بين الفصائل ومن ثم مع مديرية السجون، فما كان مقبولاً قبل انتفاضة الأقصى لم يعد مقبولاً بعدها، كما أنّ مديريّة السّجون تأثرت بحجم الدّم وقوّة العمليّات وصوت التّفجيرات، وقد أدركت أنّ ما كان ناظماً للعلاقة لم يعد بإمكانه القيام بذات الدّور في ظل الظروف والمتغيرات من  كلّ الجهات.

وبدأت سلسلة الإجراءات والقرارات وموجات الفعل ورد الفعل حتى وصلت الأمور لحالة من الصدام الدائم مع مديرية السجون التي قرّرت بموافقة الشاباك ورعاية الجيش ومصادقة الحكومة منع زيارات الأسرى، لتعود الحركة الأسيرة إلى نقطة الانطلاق الأولى وهي الدّفاع عن أبسط شروط الحياة الإنسانية وكأنّ سجون الاحتلال فُتحت أبوابها في ذلك الوقت، ولم تعترف عنجهيّة الصهيوني بكل ما أنجزته الحركة الأسيرة على مدار عقود من الزمان وعبر محطات متنوعة من الكفاح والنضال فقدت فيها مئات الأطنان من اللحم والدماء وقبلت بالجوع أشهراً طويلة على أن لا تخنع أو تركع.

ومن ضمن إجراءات القهر والحرمان منع برنامج الزيارات، ذلك المنع الذي استمرّ أربع سنوات متواصلة لم يكن لي فيها-كما لبقيّة الأسرى- أيّ تواصل مع الأهل، يضاف لها عام سابق كنت فيه معاقَباً بشكل فردي بحجج أمنية، و هكذا كانت الأعوام الخمس التي طال فيها الانتظار والتهب الشوق والحنين لرؤية الأهل والخلان، فيما كان الأهل يتلظّون على نار الفراق ينتظرون في الأفق ضوءًا يبشر برؤية الأحباب.

وفي غمرة هذه المشاعر المتأججة سُمحت الزيارات بعد نضال وكفاح مريرين؛ ليحصل الوالد والوالدة على تصاريح الزيارة يوم الخميس 5/12/2004م، ولكنّ قضاء الله نفذ وتُوفِّي والدي يوم الجمعة قبل يومين من زيارتي دون أن يراني!

وكانت الزيارة يوم الأحد دون حضوره فكانت لحظات صعبة ومؤثرة جدّا، فهمت من مشاهدها أن أمرًا ما حصل لوالدي، وفعلاً كان ما توقّعته تماماً، توفّي والدي وهو في أشدّ الشّوق لرؤيتي في الزّيارة! كان الحدث مروّعا انعكس علينا جميعا، فكم كان صعبًا على النّفوس تحمّل فراق الوالد بعد سنوات من الانتظار والصّبر مرّت بحلوها ومرّها؛ حتّى إذا ما حانت لحظة اللّقاء وفُتحت أبواب الأمل وخفقت القلوب فرحًا كانت مشيئة الله بأن نلتقي في جنانه -بإذنه تعالى- وليس خلف قضبان السجون، رحم الله والدي وأسكنه فسيح جناته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى