بالورقة والقلمزهراتنا الأسيرات

رسالة من ظلمات هشارون

بقلم: هيفاء أبو صبيح

نحن نعيش ميّتين معلّقين ما بين السّماء والأرض، بين الحياة واللاّحياة، نشغل. بقعة على الأرض التي لا نحسّ بها .. نعم نحن نقطن وسط الدّاخل المحتلّ في ما يسمّى نتانيا… ستفكّرون حتما بالبحر والهواء والاخضرار والجمال الذي تتميّز به، ولكن يؤسفنا أن نخبركم أنّنا محرومون من كلّ ذلك ولا نرى منه شيئا كما أنّ إحساسنا به منعدم تماما، فعيوننا معصوبة لا تستطيع رؤية إلاّ ما يريدون لنا أن نراه من مساحات صغيرة هي السّجون أو أصغر منها هي الزّنازين….
إنّنا نتحدّث عن السّجون وتحديدا سجن هشارون، إنّنا أربع وثلاثون أسيرة فلسطينيّة نقبع في السّجن من مختلف مناطق فلسطين ومدنها، ونشغل حيّزا مكانيّا فقط في ذلك السّجن نتجرّع مرارة البعد والألم والتّحقيق والشّوق وكلّ العذابات اليوميّة التي تبدأ ولا تنتهي بل تزداد يوميّا بسبب مسلسل الاعتداء والعذاب اللاّمنتهي .. إنّنا نمارس حياتنا التي تشبه الحياة في زنازين ضيّقة جدّا لا تتّسع إلاّ لشخصين، ولكنّ الحقيقة أنّها تضمّ أربعة أو خمسة منّا… ولا تقتصر المعاناة علينا نحن الأكبر عمرا بل تمتدّ إلى زهرات قاصرات لم يرين من الحياة إلاّ المشقّة والتّعب فكبرن وأصبحن بالغات لمجرّد تسميتهنّ أسيرات، فشيب الشّعر لا يقتصر على صغيرة أو كبيرة في السّجن…
كنّا نحاول شقّ حياتنا من الصّخر لكي نخفّف عن أنفسنا ولو القليل من تلك المعاناة والعذابات، فترانا نرسم ابتسامة من نور وسط عتمة الحزن القاتل ونعدّ حلوى وسط تلك المرارة، ونجتمع تارة في السّاحة وفي الممرّ تارة أخرى وأحيانا يضيق بنا المكان فتجتمع الأفكار فقط… نصلّي وندعو بصوت واحد لعلّ الصّمت القاتل ينكسر أو لعلّ الصّوت يرتدّ ليجيبنا ببعض الكلمات…

هنا نغالب الظّلام بتخيّل لحظات تغزل فيها أشعّة الشّمس خيوطها فوق رؤوسنا خجلى من بين فتحات الشّبك الذي يلفّ المكان فلا يترك إلاّ تلك السّاحة الصّغيرة جدّا، ولكّنها رغم صغرها تمنحنا الأحاسيس الكثيرة، فنسرق من تلك الّلحظات حياة نفتكّها من بين أنياب الموت وتدفعنا للصّمود أكثر.

تتسلّل أشعّة الشّمس الدّافئة على قلب أمّ تثلج من فرط شوقها لأولادها لتكون هذه الشّمس بحرارة حنان قلبها ودفئه الذي تكنّه لعائلتها، وتبعث الفرح والسّعادة والابتسامة لأمّ وأسيرة تاهت ابتساماتها بين ممرّات السّجن بلا عودة.  

ولعلّ أشعّتها تداعب الّنور المتلألئ في بريق العيون فيغازل الدّمعات في مآقيها فتحمرّ خجلا من ذلك الغزل ولا تبارح مكانها..
وتلبس الشّمس أجمل الّثياب لكلّ من تحتاجها فمنّا المصابات المحتاجات إليها لتجبير عظامهنّ المكسورة، ومنّا من تحتاج إلى تجديد خلايا جلد ماتت بحريق وتلاشت وانصهرت بفعل الحرارة العالية.
إنّنا لا نعيش لأنّنا بلا حياة فنحن نصنع من اللاّحياة حياة، ولكنّهم استكثروا علينا نعمة الله وحرمونا من متنفّسنا الوحيد ليصبح الظّلم ظلمات وليتضاعف قهر اليوم والسّاعات إلى قهر سنوات وسنوات، وبدل كلّ تلك الأحاسيس والمشاعر والمحبّة التي نكنّها للشّمس يتبلّد الإحساس ويموت في ظلام الزّنازين، فلا شمس تدخل إليها ولا هواء، لقد قطعوا الرّئة من أجسادنا ومنعوا عنّا الأكسجين حتّى نموت سريريّا.
لقد أصبحت رئاتنا تتنفّس بخار الطّعام ورائحة الغسيل في الزنازين، نستيقظ وننام ونستيقظ وننام في اللانهاية على تلك الروائح ونتنفس ذلك الهواء…
لقد حفظنا أنفاس بعضنا لقربنا في الزّنازين ومنحنا بطاقة تعريفيّة وبصمة لكلّ نفس يخرج منّا، وحفظنا تفاصيل بعضنا لدرجة أنّنا نرى أنفسنا بوجه الآخر، نغمض عيوننا لنرانا بكلّ تفاصيل حتّى أدقّها ولو أردنا رسم أصغر التفاصيل لبعضنا لرسمناها دون خطأ فقد حفظنا بعضنا أكثر من أنفسنا…
يتكرّر ذلك الأمر منذ ستّ وثلاثين يوما وما زال حتّى الآن كلّ ما نشعر به ونعيشه ونعانيه قائما بلا حراك أو تغيير بسبب تعنّت إدارة السّجون …
وتبقى الصّراعات بدواخلنا هل نقبل كاميرات تنتهك حرماتنا وحرّيتنا وخصوصيّتنا؟ أم نبقى على مواقفنا بأنّ الحقّ معنا ولنا بأن نرفض كلّ ما يتعدّى علينا من قوانين وأنظمة وتسّلط؟؟ هل نبقى صامتين يُخرسنا الخوف والجبن؟ أم ننتزع حقّنا من بين براثن العهر والطّغيان؟؟! أجيبوني بالله عليكم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى