
بقلم : حياة أنور
رياضيّات الأسرى لا تختلف كثيرا عن رياضيّات المدرسة التي آمنّا أنّنا لن نستفيد منها يوما، وفي ذات الوقت لا تتشابه معها، ولكن حين يجتمع الأسر والرّياضيّات والحياة في معادلة واحدة سيصبح من الصّعب التّوصّل إلى حلٍّ صحيحٍ لها، رياضيّات الأسرى مثلاً ليس فيها “صح وخطأ”، لا قوانين ولا قواعد. فرياضيّات الأسرى تتعلّق بحساب الزّمان الذي سرقناه من اليوم، والذي نتمنّى سرقته من الغد، تتعلّق بأعمارٍ لن تعود وقد طُرحت من عمرٍ ذهبت ذكرياته، وتتعلّق بعدد التّفّاح الذي رغب الأسير أن يأكله، تفّاح غرسته أنامل والده، تتعلّق بحديث أسير الإهمال الطّبي محمد أبو هدوان الذي ارتقى شهيدا عام 2004، مع المحرّر والكاتب وليد الهودلي، حين أطلعه على دفتر مذكّراته في السّجن فوجد بأنّه أكل حبّة اسكدنيا بعد 14 عاما وحبّة رمّان بعد 13 عاما.
أكان المطلوب يستحقّ كلّ هذا؟ وهل جاءت النتيجة على قدر التّعب والمشقّة؟ وهل أسهمت المعطيات الكثيرة في التّوصّل إلى استنتاجٍ أو حلٍّ منطقي يراه الكلّ صائبا؟ بالنّسبة إليهم: أجل، وستقاتل عائلتهم: بالطّبع.
في رياضيّات المدرسة، تختلف الإجابة باختلاف المعطيات، ولكنّ القانون الذي نسير عليه واحدٌ لذات الصّنف، أمّا في رياضيّات الأسرى فتختلف المعطيات ولكنّ الإجابة هي ذاتها، والقانون هو ذاته، فمسألتان بمعطيات مختلفة ستقدمان حلولاً توأميّة من الوجع والانتظار.
هي ذي رياضيّات الأسرى، رياضيّات الحياة، تلك التي كان يجب أن نتعلّمها في المدرسة، لكُنّا أحببناها أكثر بتلك الطّريقة، لكنّا استسغناها أكثر، ولبدت الامتحانات بسيطة إذا ما قارنّاها مع عذاباتهم وتعبهم، لشعرنا بالمتعة أكثر لو دُمجت الرّياضيّات هكذا مع اللّغة العربيّة في مسألة واحدة، ولو ضربت لنا معلّمة الرّياضيّات مثالاً من واقعنا الوطني وضربته بسياسة الدّول والاحتلال اتّجاهنا، ثم حوّلته معلّمة اللّغة العربيّة إلى قصّة مثيرة للاهتمام، قصّة لا تنساها عقولنا فور خروجنا من الصّفّ وانتقالنا إلى مرحلة أخرى.
ستصبح التّراكمات هنا ممكنة، سنكون صغارا، وفينا تراكماتٌ وطنيّة نستحضر من خلالها عامّة الشعب لا رؤوسه، الأسرى بكافّة أسمائهم، أسماء قديمة لا تزال على قيد الحياة، سعيد رشدي التميمي، جمعة آدم، محمد شماسنة، عبد الجواد شماسنة، ستزيد التّراكمات بزيادة أعمارنا، سننضج بها كلّما كبرت، ستتكدّس وتتكدّس، وحين يواجهنا أحدهم بسؤالٍ حول البلاد سنجيب، سنجيب بكلّ ثقة، فالتّراكمات حاضرة، ونحن استفدنا من مادّتي الرّياضيات واللّغة العربيّة.
وستستحضر تراكماتنا شعر العراقي أحمد مطر، ستجدنا ننطق أبياته الشّعرية بألسنتنا بتلقائيّة، لن يكون هناك من سيطرة على ألسنتنا، سنشدو شعره: “نحن الوطن…بدوننا ما هو الوطن….بدوننا يموت الوطن….نحن الوطن” سنفهم بيت شعره في سياقه حين قال:”نموت كي يحيا الوطن…” لن نتوقّف عند هذا البيت من الشّعر الحرّ المقاوم…سنكمل صوب البيت القادم….”أيّ وطن؟…الوطن المنفى…أم الرّهين الممتهن…” سيقاومنا المتحدّث كما قاوم عقل الشّاعر، سيقول: نموت كي يحيا الوطن.
وسيردّ مطر:”يحيا لمن…نحن الوطن…إن لم يكن بنا كريما آمنا…إن لم يكن محترما…ولم يكن حرّا…فلا عشنا…ولا عاش الوطن.”
سنستحضر يوما ما المعطيات: الأسير إبراهيم حبيشة، مريم إبراهيم حبيشة، إسراء إبراهيم حبيشة، رباح حبيشة، اعتُقل عام 2002، مضى من عمره 45 عاما، معتقل بعمر 29 عاما، محكوم 25 عاما، أنهى منها 16 عاما.
التّهمة(المطلوب): استرداد كرامة.
الحلّ:الرّياضيّات مفيدة، الآن أدرك ذلك جيّدا…
إسراء حبيشة: وُللدت بعد اعتقال والدها، لم تتقبّل يوما وجوده في سجون الاحتلال، إسراء لم تر والدها حرّا يوما وإن كانت شقيقتها الكبرى مريم قد قضت برفقته ثماني سنين فإسراء لم تقضِ يوما واحدا معه، لذلك كانت تلقى معاملة خاصّة وحبّا أكبر من أولاده الآخرين.
مريم حبيشة: الابنة البكر، تنتظر حلوى والدها المرسلة من السّجن باستمرار، تلوم نفسها على مسح العرق الذي كان يحدثه التصاق يد والدها بيدها أثناء إيصالها للمدرسة، وتلوم العالم على عمره الضّائع.
لقد كان غياب والدها بالنّسبة إلهيا على الأقل كسرا لا يُجبر، غياب الدّفء الأبوي كان مؤلما ويدعو للعجز مع كلّ موقف، مريم تتذكّر ملامح الزّيارات التي ذهبت إليها سابقا، لقد كان يشاركها جلّ تفاصيله في السّجن، وكان يستحمّ عندما تكون له زيارة ويرتدي ملابس جميلة تحت الملابس الدّاكنة التي تُرغم إدارة السّجن الأسرى على ارتدائها، كان يضع العطر، وعندما كانت تسأله عن سبب وضعه للعطر رغم أنّ بينه وبينهم زجاجا يمنع وصول رائحته، يخبرها والدها بأنّه كان يضعه ليشعر باقترابهم وبأنّ العطر لديه اقترن برؤيتهم.
والدها هو أفضل رجل في العالم بالنّسبة لمريم، ولقد كان يصفها بزهرة بستانه ويهتمّ بمناسباتها ويوم ميلادها كثيرا ويوصي أصحابه بأن يبعثوا لها هدايا باسمه وكانت تصل فعلاً. لقد كان يُخرج لها من السّجن أنواعا كثيرة من الحلوى وكلّها ما زالت تحتفظ بأوراقها لغاية هذا اليوم، كان يصلها منها الكثير بشكلٍ خاصّ، كانت تحمل اسمها، وكم كانت تفرح بهذه الأشياء الصّغيرة لكن الكبيرة جدّا في قلبها.
ولقد تزوّجت مريم ولم يحضر والدها فرحتها، كان يجب أن يكون مرافقا لها، وبالنّسبة إليهما لن يعوّض شيءٌ هذا الغياب.
رباح حبيشة: والد الأسير إبراهيم، افترض أنّه وبتزويجه امتثالا للاعتقاد السّائد آنذاك بأنّ الفتى الفلسطيني باللّفظ الفلاحي “سيعقل” عندما يتزوّج وينشغل بحياته الأسريّة ومسؤوليّاتها عن النّضال ومسؤوليّاته، لكن إبراهيم كمن هم الأسرى والشّهداء الماضون كسروا هذه القاعدة.
تزّوج إبراهيم ورزق بابنتين هما مريم وإسراء، وابنين هما أحمد وسعيد، كثر غياب أبو أحمد اللّيلي، وفي النّهاية أصبح أحد أسرى مدافن الأحياء.
أمّ أحمد حبيشة: كانت تقرأ الرّسائل التي كانت تصل العائلة من الأسير إبراهيم وخاصّة في أيّام العيد، حيث كانت العائلة تعتبر العيد موجودا في ثنايا تلك الرّسالة وبين كلماتها، وكانت الوالدة تقرأ الرّسائل بأسلوبٍ خاصّ كما لو كان زوجها موجودا، كما لو كان هو من يتحدّث.
النّتيجة: ماذا عن الآن؟ أتغدو الرّياضيات مهمّة؟ هل من الممكن أن نرى مسألة كتلك في كتبنا الفلسطينيّة تحت خانة معيّنة، أيّ خانة؟ خانة استرداد كرامة مثلا؟ وماذا عن الأمور البسيطة التي تمنّت مريم وإسراء أن تشاركا والدهما بها؟ متى ستعوّض؟ بل كيف ستعوّض؟ والأجدر أن نسأل: هل ستعوّض؟