
بقلم: قتيبة قاسم
قضيتُ ووالدي قرابة شهرين في خيمة واحدة في معتقل عوفر الاحتلالي غرب رام الله، كانت آخر أيّامه المعهودة في السّجون في حين كانت البداية الجديدة لي هناك، ليس مهمّا كم كان الوقت الذي عايشته فيه وما فيه من مرارة وظلم وحسرة، فمنذ شهر الاعتقال الأوّل بدأ والدي مريض السّكري بالمعاناة من بعض الأوجاع التي بدأت تزداد شيئا فشيئا، أهملت إدارة السّجون كلّ متطلّبات العلاج بل وحتّى المتابعة واكتفى طبيبها بمتابعة مرض السّكري والقول أنّ اختصاصه يتوقّف عند هذا الحدّ، في حين كانت الأمراض تنخر في جسده شيئا فشيئا !! حينها كان أخي الأكبر رفيق دربه منذ عدّة أشهر يعدّ أيّامه الأخيرة بعد أربعة أعوام ونصف من الاعتقال فودّع الوالد وخرج من السّجن ليكون موعدي مع لقاء الوالد المتعب الموجوع قد بدأ مع فجر عيد الأضحى المبارك من العام 2008.
بضعة أيّام وكان اللقاء في يوم ممطر وعاصف في ساحة قسم 5 في سجن عوفر، بدّد العناق قسوة البرد وأقحم الدّفء نفسه ضيفا عزيزا، ومضت الأيّام تحمل في ثناياها رغم الجرح لطائف المواقف، وأفئدةً تئنّ من فرط القهر وضيق الحال واشتداد الخناق. ليس من السّهل أبدا أن تجاور أباك في المعتقل، أن تقاسمه شظف العيش وقسوة السّجن ومرارته وأنت تنظر إلى حاله وحالك معا وحال العشرات ممّن يرافقونك داخل تلك المساحة الضيّقة. وكلّ ما أذكره، أنّ تلك الحالة بظروفها التي تلت قمع الاحتلال بالقوّة للمعتقلين وإصابة العديد منهم وإطلاق قنابل الغاز وإحراق الخيام وما ترتّب على ذلك من سوء الأوضاع بالعموم، كانت من المرارة بمكان فلا أذكر ليلةً بات أحدنا فيها وقد ارتوت نفسه من طعام أو فرح، وجرح غزّة الآخر إبّان حرب الاحتلال عليها إذ يكوي بلهيبه ما يتبقّى من متّسع وفسحة، أيّام وليال ولا يكاد يجد أحدنا سوى ما تقدّمه إدارة السّجن من طعام بالكاد يسدّ الرّمق، والنّائم فينا قد يصحو وقد اخترقت مياه الشّتاء عليه الخيام المهترئة وابتلّ من أخمص قدميه إلى رأسه، ومَن ذا الذي ذاق طعم الدّفء في تلك المرحلة إذ لا أغطية تكفي العشرات ممّن يرزحون تحت خيام ممزّقة تتطاير مع الرّياح شرقا وغربا !!.. وكم من ليلة وضحوة داهمنا المحتلّ بحثا عن اللاّشيء في المساحة اللاّشيء ، وكم أرهقتنا تفاصيل المحاكم ووعود المحامين ومرارة انتظار المجهول.
أكملَتْ الأيّام تمام الستّين، ونحن لا نغادر يومنا وليلنا نتسامر فيما مضى ونستظرف القول مع الأحبّة ونحاول محو كلّ الظّروف وتفاصيلها بجلسةٍ هنا والتفاتةٍ هناك، يجد أبي من الأسرى مَن هم على أسماء أبنائه، فهذا حذيفة وهذا هارون، والجميع كانوا على مسافة واحدة من “الوالد” يتسابقون لخدمته فيسابقهم بالرّعاية والامتنان وبثّ روح الأمل، لا يملّون من محادثته، وفوق كلّ ذلك لا يجدون حاجزا من المزاح واللّهو مع أكبر الأسرى عمرا في القسم.
كم مرّة رجوته أن أقّدّم له كأسا من الشّاي أو القهوة فيخجل مخافة إحراجي، لا يريد بذلك مشقّةً لي، فإذا ما انتهى من شربها أبى إلاّ أن يصل بنفسه تلك “المغسلة” التي تتطلّب المشي تحت زخّات المطر لتنظيفها فنأبى ويأبى وأظفر بالرّهان معظم الأحيان….
وفي خضمّ تلك الأيّام الحبلى بالكثير من الانتظار ما لبثنا نعدّ العدّة ليوم الإفراج بعد احتساب الاعتقال الإداري ضمن “القضيّة” وذلك بعد جهد من المحامي وقبل ذلك وبعده “إن الحكم إلاّ لله ” وكنّا لا نزال نرى وجه أبي غير ما كان عليه، فالجسد نحيل يشكو حيث لا تنفع الشّكوى، كل الذي نعلمه وندركه وقتها أنّ إدارة المعتقل كانت تجري فحوص “السّكري” بانتظام، في الوقت الذي تجاهلت فيه طلب أبي بكشفٍ طبّيّ شامل أو عرضه على طبيب مختصّ لأنّ الأمر لم يكن مجرّد أعراض مرض السّكري، ففي إحدى المرّات عاد والدي ليقول بأنّ الطّبيب لم يستطع استخراج نقطة دم واحدة من جسده لإجراء الفحص.
طوال تلك المدّة التي قضّاها والدي متنقّلاً بين معتقلات الاحتلال و”البوسطة” اللّعينة التي ضاعفت من معاناته، كان لون وجهه أصفر ووزنه يتهاوى كثيرا مع الوقت، كان الجميع يدرك أن ثمّة شيئا ما، وأخفى الكثيرون عنه حتّى مجرّد شكوكهم في ماهيّة المرض وطبيعته، لأنّ أحدا لا يملك تأكيدا، وكان الأمر بمثابة انتظار للمجهول، فماذا ستفعل وأنتَ لا تملك ما تقدّمه أو حتى ما يهوّن عليه؟
كان أكثر ما يهوّن الأمر اقتراب الفرج، وقد كان بعد عام ونصف، و كان ختام ذلك اليوم عناقا أخيرا على باب القسم، كان مرّا حلوا طويلاً لا يُنسى… وانتهت نصف الحكاية عند باب السّجن.
لم يتوان الاصدقاء والأحبّة يسألون عن الوالد، وعن أحواله، وما هي إلاّ أيّام وأجريت له الفحوصات اللاّزمة ليتبيّن أنّه يعاني من مرض السّرطان، كانت تلك الصّدمة صاعقة فوق صدمة السّجن وظروفه، وانكشف لنا حينها أنّ إدارة السّجن أخفت عنّا الأمر ولم ترغب البتّة حتّى بإعلامنا به أو البحث في تفاصيله، فهي قد رفضت في البداية إجراء الفحوص بل إنّها رفضت تسليم الملفّ الطّبّي إبّان الإفراج.
لم يكن المرض عائقا ولا حاجزا أمام تلك القامة الشّامخة صبرا، فهو يقهر السّرطان بالاحتساب، ولكنّ الأمراض تتوالى فتنخر الجسد الذي ما عاد يقوى على شيء، وهاهو لا زال يكابد عشرات الأمراض والأوجاع في اللّيل والنّهار منذ بداية العام 2009 دون أن تفتّ في عضده تلك السّنين ووجع المرض والنّسيان والإهمال.
إنّها واقعة تكشف في وجهٍ عنجهيّة المحتلّ وفي وجهٍ آخر بشاعة الواقع وما بينهما من إهمال يجعل من الأسرى المرضى أقلّ بكثير من مجرّد ذكرى أمام شعارات رنّانة لا تغني ولا تسمن من جوع.
وينتهي السّجن، ولكنّ الحكاية لم تنته بعد …