
بقلم : مروان أبو فارة
يختلف تعريف الحرّيّة ويتعدّد من قوم إلى آخر، لكن يبقى التّعريف النّظري هو الإطار الذي يحصر الكلمات حسبما يراه المعرّف، فالحديث من النّاحية النّظريّة هو عن الحرّيّة حسب مقتضيات التّعريف وظروفه وعصره، ولكنّ للحرّيّة تعريفا خاصّا بالأسرى لا يمكن تجاوزه.
فقبل الشّروع بالعمل يكون التّعريف الخاصّ بها هو البحث عن حرّيّة الإنسان والأرض والقرار، ومن ثمّ بعد الدّخول للأسر تكون الحرّيّة المطلوبة واقعا هي الحصول على قدر من الإنجازات يُبقي الأسير على قيد الأمل، وتكون مفرداتها مادّيّة بحتة بصورة نسبيّة. فالبحث يكون عن وقت أكبر من البقاء مع الجماعة، وكذلك عن القدرة على الحركة والتّريّض لفترة أطول، والوصول إلى الخبر وتحليله بصورة غير خاضعة للرّقابة، والبحث عن دقائق معدودة تضاف إلى وقت الزّيارة الأصلي، أي أنّ الحرّيّة في هذه المرحلة تتمثّل في الوصول إلى إشارات وبيّنات سبيل تشي بوجود ضوء في آخر النّفق اسمه الحريّة.
وبعد التّحرّر تخرج الحريّة من المفردات المادّية التابعة للأسر إلى آمال وأحلام تعظم وتصغر حسب الفترة الزّمنيّة التي غابها الأسير عن سياق حياة أهله وشعبه، والحديث في هذه الكلمات عن الحريّة المنشودة في مرحلة ما بعد التّحرّر. فلا بدّ من إقرار أمر ألا وهو أنّ أحلام الأسرى وتحديدا من يمضون فترات طويلة تبدأ بالاضمحلال مع كلّ عام يمضونه، فهي تبدأ كبيرة وذات أبعاد وشجون ربّما تفوق ما يجول في خاطر روائي خياليّ بامتياز.
ولأنّنا شعب يخضع بكامله لاحتلال بغيض فإنّ للآمال والأحلام المتعلّقة بالحرّيّة حدودا بحجم ما تبقّى من وطن، فيخرج الأسير وحواسّه الأمنيّة تعمل بكامل طاقتها، فلا بدّ من مقابلة مع مسؤول المنطقة من المخابرات الصّهيونيّة تشمل في ثنايها الوعيد والتّهديد، وكذلك الطّلب بسلطان القوّة أن يتنحّى الأسير عن الحياة العامّة وأن ينخرط في حياته الشّخصيّة التي يصرّ المحتل على أنّ الأسير قد خسر معظمها بجهله، بينما يتمتّع غيره بخيرات الوطن في ظلال تضحيات الأسرى، وهذه الإسطوانة المشروخة يسمعها المحرّر يوما فيوم، يكرّرها المحبّ والمبغض والعدوّ والبعيد والقريب، وهي تتراوح بين النّصح المحض والتّهديد المبطّن والشّماتة المطلقة، فأمّا كون هذه الإسطوانة نصيحة فهي من حريص محبّ ربّما يرى واقع الحياة المزرية التي ينالها المحرّرون، فيريد لمن يحبّ أن ينجو من براثن ذلك الواقع، وأمّا المبغض فهو ذلك”الوطني” الذي نال المناصب وحظي بالوظائف والحياة الكريمة المزعومة دون أن يحرق نفسه في أتون أفران الصّبر المسمّاة جزافا سجونا، وأمّا العدوّ فقد أسلفت الحديث عنه.
من أحلام المحرّرين أن ينعموا بنوع من الهدوء والخصوصيّة، والأخيرة تحديدا أغلى من الحريّة ذاتها، نعم، الأمر بهذه الصّورة فعلا، فالأسير في سجون المحتلّ يفتقد لهذه السّمة الغالية، فالخصوصيّة في السّجن لا تتوفّر إلاّ عند النّوم أو عند التّحدّث مع الأهل همسا وفي غير تلك الأوقات لا يتمتّع الأسير بهذه الميزة. وبعد كلّ ما سبق لك أن تتخيل حياة محرّر وتحديدا في ساعات اللّيل وهو يفزع لكلّ ضجيج وينخرط في خطوط ستائر بيته وهو يرقب المحتلّ حين يقتحم ويعتقل وينسحب، وأضف عليه فقدانه للأمان من جهة هي جزء من شعبه، وبعض مكوّنها زميله في الأسر. وربّما يصلح لإضافتك السّابقة منعه من السّفر ومنعه من الوظيفة التي ينالها بعلمه وشهادته لا بسني عمره في الأسر، وربّما مكوّن أخير يمكن إضافته ألا وهو عدم مساواته بغيره من الأسرى المحرّرين التّابعين لفصائل منخرطة تحت إطار ما.
تكثر المعاناة وتتراكم مفرداتها، والسّابق بعض من الحقيقة المرّة وليس كلّها، فقد أخطأ من أسمى المحرّرين بهذا الاسم، فهم بين سندان البحث عن لحظة حريّة خارج الأسر ومطرقة العين الأمنيّة التي لا تترك مفصلا ولو صغيرا في حياة الأسير إلاّ ودخلته، حتّى حياته الخاصّة جدّا معرّضة لأن تكون موضوعا إعلاميّا بين فينة وأخرى كنتيجة لسياسة التّفتيش والتّنكيل والمصادرة والتّرويع، ولا يدري المرء أينام فيصبح بين أهله أم يصبح مقيّدا منزوعا ممّا تبقّى من رمق الحرّيّة المزعومة.
لقد وصمونا يا صديقي بالحرّية كأنّها نيشان، ولم ننل من الحريّة إلا اسمها، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل تجاوزه إلى أمور كانت تعدّ نظريّا من أساسيات اعتبار المرء إنسانا… وإنّي لا أطلب بكلماتي هذه وما سبقها حريّة من أحد، لكن أطلب أن تُزال هذه الكلمة من وراء اسم كلّ من خرج من السّجن، فالحريّة معدومة وصفة الأسر يعتبرها البعض تهمة أبديّة، فلتكن أبديّة ولكن دون فذلكة التّحرّر، فمن يتحرّر يكون له الحقّ في مقوّمات حياة كريمة نوعا ما وليس أن يتخذّ غرضا لفلان وعلاّن ولا لفصيل أو آخر، كلّما ضاق بعضهم ذرعا بالآخر توقّفت حياة الأسير وانتُزع الأخير من سياق حياته ليُلقى على هامش الوطن باسم… الوطن.
ختاما، ليس الحديث عن ملل أو كلل ولا حتّى نزعا ليد من جهاد أو مقاومة أو صمود، بل الحديث عن الصّورة المجرّدة لواقع حياة الأسير بعد خروجه من السّجن، وربّما هي تصوير للحظة فقد الحريّة مرّة لدفاعه عن الوطن وأخرى لفكرته المناصرة لجزء من الوطن والله غالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.