بالورقة والقلمزهراتنا الأسيرات

عذرا حرائرنا

بقلم : قتيبة قاسم

لم تكن صورة إسراء جعابيص الأسيرة التي يشدّ المحتل خناقه على جرحها إلاّ ومضةً من حزن دنت من خاطري، فما بالها لا تغادر مخيّلتي كلّما عاد بي الزّمن إلى يوم محاكمتها، يوم ظهرت فيه إسراء تشكو من الألم، ولسان حالها “وهل أكثر من هذا الألم؟”، وهل غير هذا الجرح يدمي فؤادي؟ كتبت لها يومها عذرا إسراء، واليوم -وكلّ يوم- أعيد القول علّها تقبل وأخواتها أعذارنا، فعذرا منكنّ حرائرنا ونحن الشّهود على مجزرة الكرامة الصّامتون رغم تعاظم البلاء.
أطلّت من جديد إسراء ولكنّها لا زالت كما هي ونحن ما زلنا كما نحن، وهي تواصل محو آثار الجرح ما استطاعت لذلك سبيلاً، تحاول إخماد النّار التي تأكل جسدها بمرهم صغير يمنّ به السّجّان عليها كلّ ثلاثة أيّام، ويمعن فوق هاتيك الجراح في منع “معتصمها” من زيارتها، فيحرق قلبها كما أحرق جسدها وقد حرمها رؤية ابنها الوحيد !!
تعيش “إسراء” أو تحيا أو تحاول إن شئتَ القول الحياة، على هيئة من التّعقيد بالغةً، حاولتُ جاهدا أن أرسم صورة الوجع ببضع كلمات فإذا بها لا تنطق كما لو أنّك ترى صورتها أو تقوى على مغالبة الدّمع في المآقي إن استطعت، فما عادت ملامحها كما كانت، فالأذنان اختفتا بعد أن ذابت كلتاهما بفعل الحروق، أمّا يداها فلا قدرة لها على رفعهما أو تحريكهما بشكل كامل، واختفى الوجه خلف تفاصيل ذابت واختلفت وتمزّقت ولا تزال النّار تكويه كلّ حين. ولو شئتَ مزيدا من القهر فلتعلم أنّها بحاجة إلى ثمان عمليّات جراحيّة ليس أوّلها سوى محاولة شبه مستحيلة لإعادة الوجه إلى ما كان عليه وصولاً إلى فصل ما تبقّى من أصابعها الذّائبة والملتصقة ببعضها البعض، فهل يكفي عذرنا “إسراء” لينير عتمة زنزانتك ؟! …
لا زلت أذكر وسط زحام ذاكرة الأسر صورة تلك الفتاة التي زجّ بها السّجّان في زنزانة البوسطة، وبعد رحلة مريرة طويلة تترجّل نحو قاعات المحكمة يدفعها السّجّان بقسوة فيهتزّ المكان بالصّراخ وما حيلة المكبّل يومها كمثلي إلاّ صوته المخنوق، وأخرى تنادي عبر زنازين الانتظار في برد كانون القارس “أغيثوني بشيء يقيني هذا الزّمهرير”، وما من جواب، وأخرى تُطرِق ماضيةً على “عكّازها” في طريقها إلى المحكمة “مكبّلة” تجرّ رصاصات الحقد في جسدها معها وحولها السّجّانون يركلونها لتسرع قليلاً، وأخرى تصرخ وتصرخ وقد جيء بها لتشهد حكما باطلاً بحقّها سنين عجاف طوالا فتتقطّع الأكباد على حالها وحالنا ..
في زقاق الموت بين مدى الجرح ولهيب النّار المشتعل تتقرّح الآلام ويضيق مدى الفرح، تهوي ساعات الكرب بالأمل في واد سحيق، تثخنك الجراح وهي تلامس شغاف القلب المنكسر وهو يرى ما لا يُحتمل، أيّ جرح وأيّ فاجعة تحلّ بأمّة خير الأنام؟

أمّا أنتِ فلم تكوني وحيدة “إسراء”، فالجرح الذي لا زال يلفّ معصمك اليوم يشدّ وثاقه على أخواتٍ مضين نحوك يكفكفن دمعك، يوارين جراحهنّ خلف جرحك، كلهنّ إسراء وإن احتفى المسير بهنّ مجدا، لكلّ واحدةٍ منهنّ حكاية ترويها مع غدِ، يواسين جرحكِ وجرح السّابقين وجرح مَن يُأخذ كلّ يوم نحو القيد مكرها على رؤوس الأشهاد، يدفع ثمن نبل مواقفه، ويدفع عن حياض أمّةٍ ترهّلت كرامتها وبدت كسيحة ممزّقة.

 

عذرا حرائرنا، مضت الأيّام تباعاً ونحن نسمع دون حراك، ونعي دون انتباه، ونمعن في النّسيان وأنتنّ تقفن في صفّ واحد، في مجابهة السّجّان المتغطرس، تنتزعن الكرامة بأنياب عزيزة ضعيفة، يسمع الواحد منّا وكأنّه لم يسمع، ويلهو هانئا دون اكتراث.
عذرا إسراء من قبل ومن بعد، فأيّ قبح ذلك يسمو عن قبح المحتلّ إذ يرسم بشاعته ويخرج مكنونات الحقد من دواخله ليمحوَ في ساديّته وعنجهيّة المتجبرين وجها كان بالأمس وضّاءً تلمح الحياة فيه ضاحكة؟ وما الذي أبقاه الإنسان من إنسانيّته إذ ينتزع منكِ الحلم والحياة والحرّيّة فيبقيك أسيرة الوجع والحرمان ويُبقينا أسرى للذلّ والهوان!! تبقين ونبقى وكلّنا لا نبرح مكاننا!!.
وعذراًعبلة العدم، وصورتك ما عادت كما كانت، أفقدك الإهمال عينا كانت لكِ حياة، فأزهق لك الجرح كلّ الآمال، خرجتِ وما بان على وجهك إلاّ اعتلاء المجد. فويح كلّ قلب لا يكترث لهمهمات ودمعات لم ينضب معينها في ليالٍ موجعات طالت بها الوحشة ثلاثا من السّنين طوال..
عذراً لمى، وصوت طفلك”يحيى” باكيا وسط ضجيج الألم يصدح “أمّاه لا تتركيني” فتكتبين صابرةً محتسبة من خلف معتقل “ففي لحظات اليقين الكبرى والتّسليم بقضاء الله يدرك المرء أنّ بعض الخسارات الدّنيويّة بلا وزن ولا أهميّة إذا ربح الإنسان مبادئه وقيمه وثبُت وصبر وتجاوز محنته متوكّلا على الله واثقا بفرجه”، صبرا لمى ولسان حال أطفالك حين الوداع واللّقاء في زيارة عابرة أيا أمّاه عودي لنعود، ويعود للحياة معنى ..
عذرا وفاء المهداوي وضجيج جراحك يهزّ أذن المحامي وأنتِ تصرخين قهرا فأقبية التّحقيق باردة والتّحقيق قاسٍ يشقّ على الرّجال. عذرا شروق دويّات، فإشراقة فجر الحرّيّة تقترب. عذرا خالدة وصابرين وسونيا، عذرا من 64 قصّة وحكاية تحمل الأوجاع في صفحات كتابها الدّافق بالجراح.


عذرا فلا تزال تلامس شغاف قلبي، دمعة قلب ذرفت بها عين طفل يهيم في ساح اللّيالي باحثا عن حضن بات غائبا دون موعد للرّجوع، ويلامس الرّوح فينا نبضات قلب خطّت بأيدي موجعات رسائل حنينها إلى أمّهات ذبن شوقا ووجعا، ولسان الحال يبكي إلى الله يشكو يتضرّع بالدّموع، عذرا حرائرنا تسألن الرّجال مقالةً ويأبى الرّجال إلاّ جوابا واحدا يعتريه الصّمت، عذرا حرائرنا الماجدات، عيوننا قد غار فيها الدّمع وانهمر وما لقلوبنا المكلومة من جواب، ليس لضمائرنا المتبلّدة مِن صوتٍ سوى بعضُ صدى يرجعها الحنين إلى الأمجاد، يوم تصرخ حرّة من خلف سورٍ بعيد فيمضي لأجلها الأحرار دون انتظار…
عذراً حرائرنا وأنتنّ خلف القيد مضربات تعلنّ المواجهة وحدكنّ، وها قد عاد الزّائرون بعد ستّين يوما ليرسموا لنا ملامحكنّ وقد أعياهنّ الألم، فما عادت الشّمس لتشرق من جديد في معتقل “الشّارون” وقد اختفى الفرح تحت ظلال الغرف المعتّقة البالية حياءً من عين “الكاميرا” التي لا ترحم عجز بناتنا ولا ضعفهنّ ولا غربتهنّ.

 

يولد السّجن مجدّدا داخل السّجن الكبير فينتفض الكفّ ليواجه المخرز وحيدا، صائما عن رؤية الشّمس ممتنعا عن ضوء لا يضيء ظلمة المكان ولا يمحو قسوته، ثمّ بعد ذلك نعتذرُ؟؟ وتسألنّنا وهل من في فمه ماء يجيب؟ عن أيّ وجع نتحدّث؟ وهل أكثر من ذلك الذي يحرق فينا اليأس والخذلان؟ نجيب بقهر الرّجال، ليس لنا يا أخت الرّجال إلاّ بعضا من دموع نذرفها نواسي بها وجعنا، ونرفع عن ضعفنا بعض الملامة ونذرف كثيرا منها على خيبتنا وذلّتنا، فليس لنا من قوّة ولا حيلة، ونحن نفرّ من ضعفٍ لآخر ومن قاع يبحر فينا بسفين القهر طويلاً إلى قاع يزدحم حيث المغلوب على أمرهم، الأموات على هيئة أحياء ليس لهم قوّة ولا بيدهم حيلة..

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى