
لحرائرنا كلّ الحق في مدحي وإجلالي، تلكم الصّامدات خلف حطام عالم كامل، من عشت قبلهنّ التّجربة، وعلمت كيف لبرعم صغير أن يضحي عالما كاملاً وفضاءً تسبح بداخله ملايين النّجمات السّاطعات..
إلى رفيقات الأسر، من بالأمس كنّ لي خير أخوات لا عهدها يرم إذا محا الزّمان سطورها، إليكنّ أخواتي وأشدّ فوق الأيادي الثّائرات، لهذه الثّورة العظمى، لحفيدات الخنساء الماجدة، لقلب تشبع بعقيدة الولاء والبراء، فالولاء لله ودينه والبراء ممّن عن دربه كان تخلّى، واختار غير العروة ميثاقا له، لا أرى له عروة أو ميثاقا..
نعم إن كنت لا أجد شيئا يحاكم هذا العالم الجائر كبكاء طفل فقد أمّه يشكو، بينما هي بضعفها الذي تقصيه إرادة شمّاء وقفت عن وطنها تنافح وتقاتل، حفيدة لتلك السّيّدة التي حملت بين أشتات الأرض برد خيمتها و لجوء أسرتها الطّويل وقلّة ذات اليد، فصنعت لمن خلفها من اللاّممكن ممكنا، وخاطت من الآلام حكايات الثّبات. هكذا قضت تلك الحياة بسطوتها؛ أن تعيش الأمّ في وطني كما الرّجال، تخلفهم بالبيت تحرس لا تنام إذا هم بالعتق قد طلبوا المنى، فإذا سقط بهم أحد ما قرّ لها جفن، إذ كيف ينام الثّأر.. ؟
هذه الفلسطينيّة التي خرجت طلبا لحقّها اعتقلت، هي “حرّة” .. بالسّلاسل قيّدت والقيود إلى السّجون كما الرّجال العظماء، نعم فلطهرها ظنّوا أنّهم قد اغتالوا، إذا ما تقلّبت بين السّجون ترحّلت، اذا ما أحاطوا أحلامها بجدران لهم أربع، مترا بمتر، أكانت الأحلام إذا ما حبست الأجساد تحبس؟ كلاّ ففي امتداد الرّوح ما هو أشدّ من هذا وأعظم ..
وعلى عزمها صبّوا كلّ نارٍ بحقدهم تصطلي، تفتيش فعزل، ضرب وشبح، ثمّ أمراض بها مزمنة، ولم يتورّعوا يوما عن قتلها والتّنكيل بها متى سنحت الفرصة بذلك، ولعلّي في “إسراء جعابيص” كلّ الدّلائل على قبح هذا المحتلّ، فمن يشفي جراحها التي تدثّرت في زنزانة حمقاء وحكم بضع سنين أو يزيد، أم ابتسامتها الدّافئة، وأصابعها التي ذبلت، فغزاها خريف العمر قبل أوانه، من يعيد لها ما فقدت؟ أجل لا تخبروا طفلها، فلعلّه إذا كبر رأى الحقيقة واقعا ففهم؛ أيّ محتل غاشم ذاك، وجرائمه التي تجاوزت السّبعين ومايزيد، نهم للفساد عقيم، فكيف بوجعها الممتدّ عمق الرّوح في الآفاق، ايه لنا يا اسراء أما علمت سيُسمَع صوتنا المنسي..؟ فإن معتصمك مات، فربّ معتصم لا يموت؛ وهنالك رجال على عين الله صنعوا.. كيف لا وخلف تلكم الأسوار أحرار وحرائر علينا عقدوا عزم حرّيّتهم..
وإلى جانب الرّصاصة وجبت الكلمة، على جبهة واحدة وفي خندق واحد كمدفعين صوب هدف واحد وعدوّ.. وما تفرّق أحدهما عن الآخر إلاّ كان ضياعهما معا، ولأجل ذلك وجب أن يعلم أصحاب المداد؛ أنّ كلماتهم إن لم تكن سهاما في كبد الحقائق الكبرى، أو ماء وسط الحريق، أو حياة للغريق فإنّها كلمات ميتة، لا أعراس لها أو حياة، لن تجدِي معها كلّ حالات إنعاش أو بقاء، وإن لم تكن سيفا بالحقّ أقسط فرفع الظّلم عن المظلومين، فما حاجتنا حينها إليه، إذا ما تزاحمت الحروف وهمهمت تريد انبثاقا لها و ميلادا، تداعت إلى حرّيّتها فأبينا نحن .. إن كان ميدانها أكبر من مجرّد حبر وورقة، بل الحقّ والعدل أينما وجدا وبأيّ أرض ..