
بقلم : بهيّة النّتشة
عندما تصبح أرقام محاكم السّجّان بلا قيمة مهما تزايدت خاناتها
عندما نسمع الحكم فلا نسمعه، وجلّ تفكيرنا بيوم الفرج
عندما يخرج الأسير من قاعة المحكمة فرحا، بينما يعبس سجّانه!
يتساءل عن ضحكة ذلك المكبّل بالقيود، المبتسم رغم المؤبّد.
لا يدري ذلك المسكين أنّ خصمه حرّ محرّر رغم سجنه، يرى حُكمه ومضةً ليوم تشرق فيه شمس الفرج، يوقن بما قاله العلماء: أنّ المبتلى عليه أن يفرح لأنّ قانون الله في الأرض أنّ بعد كلّ بلاءٍ رخاء والرّخاء يعقبه بلاء، هكذا يتعاقبان كالشّمس والقمر كاللّيل والنّهار، هو في اللّيل الآن ينتظر الصّبح، أليس الصّبح بقريب؟!
يغمض عينيه كلّ ليلةٍ متخيّلاً يوم حرّيته يرسم الوجوه القادمة لاستقباله، يتخيّل كلماتهم عبراتهم وابتساماتهم، يتخيّل سجدته على تراب أرضه الطّهور، ثمّ يستيقظ لتكون أولى خواطره بأنّ نهاره الجديد إمّا يحمل فرجا أو يقرّبه إليه خطوة، ينتهي اليوم ليعود إلى خيالاته فيعدّل هنا ويضيف هناك، أشخاصا ومواقف وضحكات و سجدات، هكذا دون ملل تمضي الأيّام.
لا يهمّ إن كان الحكم طويلاً أم أشهر لا تذكر، فكلّ أسر باختلاف رواياته يحمل رواية واحدة من مصدر واحد يسمّى الأمل.
تعيش عائلة الأسير في الخارج أسيرةً معه، رغم تعاقب الأحداث حولها، ووجود الضّياء والسّماء وحرّية التّنقّل إلاّ أنّها مكبّلة بالأصفاد ذاتها، فمهما عاشت أحداث الواقع هي في تلك الزّنزانة حيث يمكث نبضها، لذلك تتشابه أحداث الرّواية، فلا تجد عائلة أسير تنفصل عن أملها باللّقاء، ولا تجدها تخلّت عن الانتظار وعاشت واقعا وأيّاما وألقت أسيرها في ذكريات ماضية، ولا تغلق عليه بوّابة السّجن كما يفعل سجّانه.
ليست التّحليلات السّياسيّة ولا الأخبار ما يحفّز الأمل لديهم، بل تجد أنّهم لا يلقون لها بالاً أمام يقينهم بالله، فمهما ساءت التّقديرات والتّحليلات، وجمدت وركدت الأخبار المبشّرة لا ينفد زادهم من الأمل، على العكس تراهم إذا غُلّقت الأبواب وسُدّت الفُرج، فتحوا لأنفسهم بوّابات موصولة بيقين أكبر، فالذي وضعهم في هذا البلاء وحده القادر أن يكتب لهم فرجا بغمضة عين، بلمحة خاطفة، بقبس رحمة منه سبحانه، حتّى أنّهم يوقنون أنّ التّحدّي والاختبار الحقيقي لا يتمثّل في سجن ولا سجّان بل هو فيما بعد الفرج، فأفكارهم دائما تحملهم لتحدّيات ما بعد الحرّية، سيحافظون على عهدهم، على قربهم من الله، على هدفهم في إصلاح ما يأملون إصلاحه، في جعل هذا الكون أفضل، سيسعون إلى ما جعلهم هنا في المقام الأوّل “الحرّية ” حرّية فكر ووطن، حرّية عقيدة و مسرى، سيسعون إلى الأمل الأوّل والأخير بلاد بعدل وأمن وأمان بلا قيود ولا حواجز، من يملك هذا التّصوّر كيف لا يملك أملاً، فقد تجاوز حاجز الأمل إلى حاجز اليقين وما بعده، إنّه يرى نفسه بعد الحرّية ما هو صانع.
السّجن لم يكن يوما المحطّة الأخيرة في قطار الحياة، هو إحدى المحطّات الكثيرة التي يمرّ بها الإنسان في حياته، محطّة كهذه تكسبه صبرا وجلدا و عزيمةً، يؤسّسه الله في هذه المحطّة لما هو قادم بالفعل، لمهمّته المنتظرة التي سخّره الله لها، تماما كما حصل مع سيّدنا يوسف عليه السّلام في سجنه، وبعده عن والده، كانت محطّة لا بدّ أن يمكث بها زمنا ليُمَكّن ويصبح عزيز مصر، وهي أيضا كتلك المرحلة التي مرّ بها أشرف الخلق سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم عندما توفّيت والدته بعد والده، تلك المرحلة التي يقول الله له فيها أنا وحدي سندك، وستمرّ بهذا التّعب المرهق لأجل أن تستعدّ و تكون على قدر حمل التّمكين القادم لك.
قصص نعرفها وتردّد كثيرا على مسامعنا أو ربّما نخبرها للنّاس ولكنّ هناك فرقا بين ما تناقلته الألسن وبين ما اخترق الرّوح فأضاء يقينها بالحقّ، نتبع سيرة الأنبياء لنكون مثلهم وتكون عاقبتنا عاقبتهم، وها هم الأسرى وعائلاتهم يمرّون بما مرّ به الأنبياء من تعب و قهر و ابتلاء وما عليهم إلاّ أن يصبروا مثلهم ويتبعوا نهجهم في اليقين حتّى يمكنوا في الأرض مثلهم.
بمثل هذا نعلم من أين تأتي عزيمة الأسير وأهله، كيف تظهر ابتسامتهم في أحلك أيّام حياتهم، كيف يضربون بأرقام لا نهاية لها عرض الحائط.
في ذلك اليوم “يوم الحرّية” الكلّ مدعو للفرح حتّى أولئك الذين خذلونا، حتّى الذين ظنّوا أنّ ما نحن فيه ضرب من الجنون، مدعوّون ليشهدوا عزّا ويتعلّموا بذلك أقوى الدّروس التي لا تؤخذ من كتب ولا علماء: أنّ الحقّ غالب والمقاتل منتصر والأسير حرّ، وسنسعد إن أكملوا معنا الدّرب واحتفلوا معنا بنصر لم يصنعوه.