
بقلم : قتيبة قاسم
في بيته حاملاً طفله الذي جاءه النبأ بقدومه في لحظات ما بين الحياة والموت، حاملاً حلمه وبعضاً من تلك الأماني التي عطّلتها سنيّ القيد والحرمان، يحمل “حسن” بين ذراعيه “جبل” الذي سيجعله محل اهتمامه البالغ ” ليحيا حياته كريماً بعيداً عن آلة الحرب وسيمفونية الدمار ” كما يحاول إيصال رسالته بعد أن ذاق فعرف نعمة الحرية من بعد نقمة القيد والحرمان.
أقبل حسن وكنت قاصداً الوصول إلى بيته على حين فجأة ودون موعد مسبق، كان لتوّه خارجاً مع زوجته مصطحباً نجله يحمله فوق أكفّه لقضاء بعض الوقت، فاستقبلتنا العائلة بالضيافة العربية والحلوى وكثير من الابتسامات التي تظهر مدى الفرح في بيت كان يملؤه الحزن طوال عقد ونصف من الزمن.
في المنزل الذي تأخذك إليه أدراج طويلة تنقلك من وسط ساحة مهد المسيح في قلب بيت لحم القديمة، وأدراج أخرى تأخذك إلى حيث المستقبلين المهنئين بالإفراج عن حسن وخروجه منتصراً بعد إضراب عن الطعام واعتقالٍ أخير طوى به أربعة عشر عاماً خلف القضبان، في البيت المتواضع الذي لم تهدأ الأقدام وصولاً إليه وأحاديث القيد والاعتقال حاضرة مع كثير من الأسرى والمحررين والأقارب والأصدقاء الذين جاؤوا يشاطرونه فرحة الإفراج التي يعدّونها انطلاقة حياةٍ جديدة.
كان واحداً من أولئك الذين اتشحت حياتهم بالقيد ومسحة الغربة في أرض الوطن، فالأسير المحرر حسن حسنين شوكة المولود في مدينة بيت لحم في العام 1988، خرج لتوّه منتصراً من اعتقال إداري خاض خلاله إضراباً عن الطعام لاثني وستين يوماً متواصلاً، كانت حلقة في مسلسل عذاب لا ينتهي.
في عام 2004 كانت بداية الولوج إلى دهاليز القيد ومسالخ التحقيق، تنتزع آليات الاحتلال وجنوده المدججين الطفل حسن من بيته ليلاً، غادر حسن منزله ومدرسته قبل أن ينهي الصف العاشر، وابتدأت في زنازين تحقيق ” المسكوبية” رحلة المسافر في قطار حياة مليئة بالأشواك من كل جانب.
كانت مدينة السلام تحتضن فؤاد الفتى الذي كبر قبل أوانه، وأُدخِل الزنازين مُذ كان طفلاً ” جاهلاً بما تحمله الأيام وما تخبئه له الظروف” لتشكل له بداية صعبة لا تبعث على الأمل كما يقول حسن.
طفلاً ثم شاباً ينتقل من سجن الأطفال مروراً بسجن الكبار بعد أن بلغ ثمانية عشر عاماً من عمره، عوالم جديدة تتفتح أمام الفتى في ساحات لا يدري ما طاقته بها، وما حيلته بأن يكون في مكان ما غير مدرسته التي كانت تنتظره كل صباح، وهو يستشعر لحظات القيد لأول مرة بالقول مراراً طيلة الوقت ” حرموني من طفولتي ولاحقوني بعد ذلك بكثير”.
لم تكن لتنتهِ تلك السنوات الخمس دون أن تترك أثراً بالغاً في نفس حسن، وما أن جاءت لحظة الخلاص إلا وكان حسن قد سجّل أول الأهداف التي تأخرت وأنهى دراسة الثانوية العامة داخل المعتقل بنجاح.
لم تكن ساعات الحرية طويلة، وكانت تنتاقص مع مرور الوقت، وكان يحاول في كل مرة أن يتشبّث بها وأن يعضّ عليها بالنواجذ، إلا أن آليات الاحتلال وجنوده كانوا أسرع منه على الدوام، فيعود للسجن مجدداً دون أي تهمة.
اعتقالات متكررة
ذات يوم أعاد الاحتلال اعتقال حسن بعد 27 يوماً من خروجه من السجن، كان ذلك في العام 2009 لتعود حكاية السجن التي لم تنتهِ سريعاً إلى الواجهة، ويعود إلى “بيته الثاني” الذي لم يكن منه بدّ.
تعرض حسن للاعتقال 7 مرات خاض خلالها تحقيقاً متواصلاً امتد لفترات بلغت إحداها 100 يوم، وكان عجز الاحتلال عن تقديم الإدانة بحقه لقمةً سائغةً على مائدة القانون الجائر الملقب”بالإداري”.
ظلت الإقامة في السجن تشكل هاجساً وأضفى الاعتقال الإداري عليها صبغةً تزيد الشعور بالظلم أضعافاً مضاعفة، يقول حسن “كنت طفلاً عند الاعتقال الأول والاتهامات كانت أكبر بكثير من عمري، حرمت من الدراسة والوجود إلى جانب أهلي وأصدقائي، كبرت وعدت للسجن مرات ومرات ولا تهمة واضحة بحقي”، لقد كان التحدي قائماً طوال تلك الاعتقالات بألا يسرق المحتل بهجة الحياة ولا فرحة الإنجاز والتقدم ولو كان بطيئاً.
وحين صار لا بد من المواجهة والتحدي الذي جاء في سياق الانتصار للحرية والأفكار، وحين أدرك حسن أن لا مناص من الوقوف بحزم تجاه الانتهاك القادم بحقه، جاء قرار الاضراب.
الاضراب عن الطعام سلاح لا يصدأ
كانت فكرة الاضراب عن الطعام تراود حسن طريقاً وسبيلاً لإنهاء معاناة اعتقاله المتكررة، فلم يجد إلا طريق التحدي لكسر قرارات اعتقاله الإدارية الجائرة، يقول حسن “الاحتلال يمارس باتجاهنا ضغوطاً متواصلة، وسلسلة اعتقالات أنهكتني على الصعيد الشخصي وأنهكت أهلي، تعرض والدي للاعتقال واعتقلت أمي وإخوتي، وعلى إثر ذلك اتخذت قراري بأن لا أقبل أن يتم اعتقالي إدارياً مهما كلفني الأمر”.
كان القرار بحد ذاته كفيلاً بفتح باب مواجهة جديد، بدأ الإضراب بداية اعتقاله ليتوقف بعد تحويله للمحكمة وإخراجه من الاعتقال الإداري باتجاه القضية، غير أن عنجهية الاحتلال ومراوغته جعلته يبدأ اضراباً جديداً بعد إنهاء حكمه وتحويله مجدداً للاعتقال الإداري في أكتوبر من العام 2017.
قرر حسن خوض الإضراب بعد تحويله للاعتقال الإداري، وقف في وسط المحكمة صارخاً بإعلانه الاضراب، ليكمل اثنين وستين ويوماً، جاءت في بدايتهن أخبار سارة تحملها المحامية لحسن، كانت البشارة تحمل بين ذراعيها “جبل” في الوقت الذي كان والده يواجه الموت البطيء في زنزانة معزولة عن العالم.
يقول حسن” كانت أصعب اللحظات التي تلقيت فيها نبأ قدوم ولدي، لم أستطع تفسير تلك المشاعر” كانت بداية الإضراب وكانت حافزاً لإكمال مشواري طلباً للحرية، “أريد لإبني أن يحيا حياة أفضل مما عشنا”.
أما حسن فتجده يحدّثك عن تفاصيل تلك المرحلة في سرد تاريخي، تتأمل حجم تلك المعاناة التي كان يحياها على مدار تلك الأيام الطويلة بما فيها من أوجاع ستترك أثرها عليه لاحقاً، كيف حجبوا عنه كل شيء، كيف نقلوه إلى زنازين منفردة لا يرى ولا يسمع أحداً، كيف كانت التهديدات تصله كل لحظة، وكيف فقد 36 كيلو غراماً من وزنه، وكم كانت المعاناة ثقيلة حين فقد بصره لأيام، وكل تلك الحكايا المرّة التي ترويها قيود حسن وذاكرته التي لا تزال تحتفظ بأيام كالبرزخ، ما بين الحياة والموت.
نصف العمر في الأسر
لا يمكن لوالد حسن إلا أن يقول لك كم من الوقت ذرفوا على حسن دموع الفراق والألم، وكم من الوقت خرجوا لنصرته والوقوف إلى جانبه في الاضراب متضامنون معه، الوالد الذي اعتقله الاحتلال عام 2015 للضغط على حسن لتسليم نفسه حيث كان مطارداً، وكان الوالد خارجاً لتوّه من المستشفى بعد خضوعه لعمليات معقدة في القلب، لا يزال يذكر جيداً ظروف كل اعتقال وكيف كانت لا تخلو من التهديد والوعيد والدمار،” كانوا يتركون البيت خراباً، وكانوا يتعمدون إهانتنا والاعتداء علينا بكل الوسائل”.
يتحدث والده مجدداً عن تلك المشاعر التي رافقتهم وحسن يواجه الموت في زنزانته وحيداً دون نصير، “لكن حسن اختار طريقه وهي طريق عزيزة كريمة” كما يقول.
طموح وأمل
لم يستطع حسن حتى نهاية عامه الثلاثين أن يكمل فصلاً دراسياً واحداً في الجامعة التي اختار فيها تخصص إدارة الأعمال، وقد عاد فوراً لإكمال ما بدأه، فالحياة لا تتوقف أبداً.
درس حسن مساقات جامعية في التاريخ في سجن هداريم، وكان زميلاً مرافقاً دائماً للكتب، يبحث عن كل مفيد بين طياتها، حتى فور الإفراج عنه كان ينوي اللحاق بالجامعة، وكانت تهيأت له ظروف اللحاق قبل أعوام بجامعة فلسطين الاهلية في بيت لحم ليدرس إدارة الأعمال فيها، وينوي العودة مجدداً بداية الفصل القادم.
يحاول العودة إلى الحياة بطبيعتها، يتلمّس جدران منزله العتيق الذي غادره سنين طوال، يجلس طويلاً في ساحة المهد، يحاول ملاعبة طفله “جبل” على الدوام، يحاول استنشاق الهواء دون أن تحجبه قيود وجدران.