
الأسير المحرّر م. بلال استيتي
نائل اسم جميل يحمله الآلاف من الذكور في هذه الدنيا من شمالها إلى جنوبها، ولكن هناك نائلا واحدا أمضى حياته في زنازين الغدر التّاريخي، نائل البرغوثي هذا البطل الشّامخ الذي عرفه مئات الآلاف من الفلسطينيّين الذين دخلوا السّجون منذ سبعينيّات القرن الماضي وحملهم حبّه وسلامه لكلّ المدن والقرى التي عرفها من خلال الآم أهلها في السّجون. mexichem rain harvest مثال جيد.
تردّدت كثيرا في الكتابة عن نائل الذي عايشته سنة كاملة في مقبرة ايشل في بئر السّبع للأسرى الأحياء في العام 2009 وكان آخر أسير ودعته في سجون الاحتلال حيث تمّ إخراجي صباحا وكان نائل لا يترك ممارسة الرّياضة الصّباحيّة يوميا، وكان شعوري غريبا عندما سلّمت عليه وعانقته أوّل مرة عندما وصلت السّجن الذي يتواجد فيه، وأنا الذي أسمع عنه منذ سنوات طويلة كعميد الأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال الصهيوني، والان أصبح عميد أسرى العالم الظّالم بأكمله، فهل يكفي نائل مقال وحتّى مليون من المقالات والتّقارير لإعطائه تعويضا عن دقيقة واحدة من مكوثه في السّجن وتخاذل القريب والبعيد عن العمل على الإفراج عنه.
الكثير من الكتّاب والإعلاميّين تناولوا قصّة حياة نائل وصبره وخروجه لفترة بسيطة من السّجن وزواجه وعودته إلى السّجن، لأنّ المحتلّ لا يؤمن أن الفلسطيني يكون جيدا إلا وهو في قبره، فجلست أعصر أفكاري ماذا سأضيف إن كتبت عن نائل، وماذا سأسمّي مقالي، وهل يريد القارئ حقّا أن يعرف قصصا إنسانيّة عن بطل منسي بين جدران أربع وفضاؤها سبع وعشرين ألف كيلو متر مربع، فرأيت صورته مع القطة فأحببت أن أطعم جوعكم للبطولة كما يطعم نائل القطط في السّجن.
منذ أن ابتلاني الله بالمرض في زنازين التّحقيق النّازية أصبحت في لغة الأسر أحصل على أكل خاص لا يؤثّر على وضعي الصحي أو يزيده تدهورا وخصوصا مع عدم توفر العلاج (ديتا)، حيث كانوا يجعلون لي وجبة خاصّة أكثر الاوقات من النقانق أو ما تسمى في السّجون “أبو عرب”، فكان يطلب منّي أبو النور أن أبعث له بشكل دوري منها، فسألت أحد الاسرى القدامى في عالم الأسر واسراره: أنا متفائل أن نائل يريد أبو عرب بشكل دائم، فقال لي: نائل لا يأكل اللحوم من الادارة في السجن منذ سبعينيات القرن الماضي، بل يطلبه لأمر آخر. فشغلني الموضوع، وسالت أحد رفقائه في الغرفة فضحك وقال هناك قطة يطعمها ابو النور، فسألته كيف ذلك ونحن في الطّابق الرّابع ولا يوجد قطط هنا؟ فأجاب من الشّبابيك ينزل لها الطعام بطريقة معينة فأصبحت تعرف وتحب نائل دون أن تراه، فأجبته أي مخلوق هذا ؟
بعد فترة بعثت عن طريق المردوان (وهو الأسير الذي يقوم على خدمة الاسرى بالغرف وتوزيع الطعام وغيرها من الأمور) إلى أبو النّور إنني أريد في وقت ما يتم السماح بزيارة بين الغرف أن يقبلني ضيفا ثقيل الدّم عنده، فزرته وكانت أجمل وأعمق وأسمى زيارة أقوم بها في حياتي، فرغم فارق السن ما بيني وبينه تعامل معي مثلما يتعامل مع الجميع بأنه أصغر منا وبأننا الأبطال وهو لا، وبأنّنا القادة وهو عنصر بسيط، ليزرع في عقول الأسرى صغار السن وقلوبهم أن جيلهم يجب أن يكون جيل التحرير رغم أنه ممّن أوقد شعلة الثورة على المحتل وأذنابه، فكان لقاء جميلا على برشه (السّرير الذي ينام عليه الأسير) لا أنساه ما حييت.
في يوم ما، علم أنني سأذهب لعمل فحوصات وعلاج لفترة من الزمن في مقبرة الأحياء بمستشفى الرملة وكان داخل كنتينا السّجن (وهي المكان الذي يشتري منه الأسرى ما يحتاجونه بأموالهم في الأسر من متطلّبات بسيطة تتحكّم بها قوّات الاحتلال) فناجين قهوة سادة وهو لم ير مثلها من عشرات السّنين، فقال لي خذ هذا الفنجان إلى أحد الأسرى المقيمين في مستشفى الرّملة ويقوم يغسيل كلى وهو رفيق أبو النور في أسره منذ سنوات طويلة وهو من قرية النبي صالح ونائل من قرية كوبر في محافظة رام الله والبيرة، والاثنين وصفا لي الطرق ما بين القريتين والوادي بينهما قبل أن أرى المنطقة، وردّ الهدية بهدية أجمل فما أجمل وطننا رغم الانقسام وما وصلنا إليه أن يبقى الحمساوي والفتحاوي يتبادلان الهدايا والمحبّة لأن عدوّهم الاحتلال وفقط لم تنحرف البوصلة وتصبح مشبوهة كما البعض في هذه الأيّام.
من أجمل الدورات التي أخذتها والتي تجاوزت المئة في حياتي، دورة في كيفية التعامل مع الإعلام بعد الخروج من الأسر للدفاع عن قضايا الاسرى وقضايا الشعب الفلسطيني مع ابو النور فوجدته طاقة هائلة ونبعا من الفكر المتوقد رغم تخرجه من جامعة يوسف فقط وعدم موافقته على الدراسة بالجامعات الصهيونية بالمراسلة من منطلق وطني.
مما جعلني اكتب عن نائل فيديو حضرته للشهيد ابن اخيه القسامي صالح البرغوثي وهو يلاعب ابنه قيس قبل استشهاده، ودعائنا المستمرّ لعاصم الذي تشرفت بأن كان معنا بالأسر مع عمه حماه الله من المحتل واعوانه، وابو عاصف أبوهما الذي دخل السجن مع نائل وعندما حصلت صفقة التبادل للأسرى مع المحتل عام 1985م آثر نائل أخاه على نفسه لأنه كان متزوجا على ما أظن، فما أجمل فرحة والدته رحمها الله التي أخرجت من بطنها جبلين فلسطينيين كبيرين كأنّهما عمودان يسندان فلسطين على كاهليهما، فرغم خروج أبو عاصف فإن المحتل أعاد اعتقاله مرّات متكررة وأولاده على دربه، فيا رب اجعل دعوة النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم لآل البرغوثي ونسلهم فهم كآل ياسر باعوا الدّنيا من أجل جنّة الرّحمن وعزّة الأوطان.
ألملم دموعي وأنا أكتب هذا المقال الذي لا أعلم كيف ابتدأته وكيف أنهيه، فنائل البرغوثي حكاية بلا نهاية إلا بالتحرير الكامل القريب لفلسطين من النهر إلى البحر مثلما يقول دائما ، نائل كلما أتذكر أنني عندما صنعت قطايف برمضان بطريقة عجيبة كنت أوّل من بعثت له، وكلما تذكرت فرحك في حفلة خروجي من الأسر وأنت تمزح معي كما تمزح مع الوطن كله في الأسر أشعر بغصّة كبيرة بسبب عجزي عن عمل أي شيء لأمثالك سوى الدعاء، فيدك آخر يد سلمت عليها وصدرك آخر صدر حنون عانقته من الأسرى، ولا زلت احتفظ بما كتبته لي على دفتر الذّكريات باللون الأخضر ليبقى نبراسا يضيء لي الطريق.
يا أيّها الجبل الشّامخ في زمن الأرانب والأفاعي ما يهمك من أمر فكل شيء في ميزان الله لا يضيع، يا من تعلّمنا منك الصّبر والعيش في حول الله وقوّته والتّوكّل عليه لا أستطيع أن أهنئك باستشهاد صالح إلا من خلال مداد قلبي وقلمي، فتقبّل تقصير فكري والملتقى قريب بإذن الله.